لا يكاد يختلف اثنان على أن ثقافتنا العربية المعاصرة تمر بمحنة ذات ملامح وصفات فيها من الندرة والعجب ما ليس بالقليل! وفي السياق ذاته، لا يكاد يتفق اثنان حول تعريف هذه المحنة، هويةً وأسباباً وسلبياتٍ، والكشف عن السبل الآمنة للخروج من شراك هذه المحنة وقايةً لثقافتنا، وردعاً لأسباب التحول بها عن صراط التأصيل والإبداع.
* * *
وقد قادني التأمل المجتهد إلى طرح أكثر من رؤية فكرية متعددة الأطراف والأطياف لأسباب هذه المحنة، منها على سبيل التمثيل لا الحصر ما يلي:
1 - هناك مشكلة تعريف مفهوم (المحنة) الثقافية، ويتبارى في التعريف مجتهدون من كل صوب، فمنهم من يعرفها بالفراغ بين الفكر الموروث والفكر الوافد من ديار الغرب، وافتقار ساحة الاجتهاد إلى صحوة إبداع تعيد له توازنه بين التيارات المتضادة، وتمنحه العمق العقلاني والانتماء الأخلاقي إلى هوية هذا العصر وتحدياته، وهناك من قد يعرفها بغياب هامش الحرية: مبادرةً وحواراً وتعدداً في مسارات الطرح، وتسامحاً مع من يختلف.
* * *
2 - وهناك من قد يعرفها بتلوث العقل بمباهج الحس المادي، ويستشهدون على ذلك بالقول إن شريط (الفيديو) وما في حكمه و(ثقافة الجوال) ووسائط التواصل الاجتماعي باتت جميعها أكثر رواجاً واستقطاباً من الكتاب.
* * *
3 - وهناك من يعرف محنة الثقافة بأنها ثمرة التراجع المشهود في معايير التربية، منهجاً ومضموناً، فصار (الظفر) يحسم لمن يستظهر النص لا لمن يتأمله، استيعاباً واستنتاجاً ونقداً.
* * *
4 - وهناك من قد يستشهد بـ(غوغائية) الرأي الواحد، معتبراً ذلك من سلبيات المشهد الثقافي الراهن الذي يخشى الجدل، ويفر من الخلاف، ويسخر بتعددية المواقف.
* * *
وفي ظنيّ المتواضع، أن جميع الرؤى السالف ذكرها وسواها، يمكن أن تكّون في مجموعها، ما يمكن أن نسميه (محنة الثقافة العربية).
فظاهرة التلوّث التي تفرزها بعض قنوات الإعلام والاتصال الحديث، ترسل غماماً يحجب أصالة الثقافة، ويعكّر مجراها.
* * *
وغربة الفكر التي أفرزتها الفجوة بين الموروث منه والمستورد، لم نفلح بعد في تجسيرها بتصور مبدع يحفظ لنا هويتنا، ويحفظنا من مزالق الإفراط في التقليد، أو التفريط بموروثنا الأصيل.
وهناك محنة التربية مضموناً ومنهجاً ومردوداً.
* * *
وبعد:
فقد اجتهدت في السطور السابقة محاولاً رسم (خارطة رؤية) لأبرز ملامح عاهاتنا الثقافية مما أسميته مجازاً (المحنة)، وقد يرى من يرى في هذا الطرح (التشخيصي) قصوراً وهو لن يخلو من ذلك، لأنه لم يقرن التشخيص الافتراضي بـ(حلول) للتخلص من تبعات المحنة الثقافية وآثامها، وفي الوقت الذي لا ولن أبرئ نفسي من مظنة القصور في الطرح، إلا أنني من جانب آخر، أزعم بقدر من يقين أن ما جاء في هذا الحديث ليس سوى مؤشر لمشكلة أكبر من باع هذا الكاتب وقدرته على التأمل والتنظير في هذا المجال، ويبقى بعد ذلك السؤال الأهم: إذا سلمناً جدلاً بمعاناة ثقافتنا العربية لأكثر من سبب، فمن أين يبدأ مسار التصحيح وكيف..؟.