المحطة الأولى:
سئلت ذات مرة: ماذا علمتني تجربتا الفلاَّح عبدالرحمن (طفلاً) ابن السبعة أعوام في مزرعة جده لأمه رحمهما الله، قبل أكثر من خمسة عقود، ثم العيش بعد ذلك بوقت طويل مبتعثاً في الولايات المتحدة الأمريكية لمدة تجاوزت الست سنوات؟.. فقلت إن لكل من التجربتين بصمةً بليغةً في حياتي، ومنحتني كل منهما الكثير مما لم اكتشفه ضمن سياق حياتي إلاّ في مرحلة لاحقة.
***
تعلمت منهما الصبرَ والجَلدَ طمعاً فيما هو أفضل، وتعلمت منهما (مهارة) الاستمتاع حد الرضا بالقليل من الزاد والكساء، لأن (الحلول) البديلة لإشباع الحاجة منهما كانت متعذرة زماناً ومكاناً ومورداً.
***
ثم أدركت وأنا طالب في أمريكا خلال عقد الستينات ميلادي فوائد اصطحاب الأغنام وحيداً كل يوم إلى المراعي المجاورة لمنزل جدي رحمه الله، منذ أن تفتح الشمس جفنيها صباحاً حتى توشك أن تغلقهما مساءً.
***
كان في مقدمة تلك الفوائد نعمة الانفراد بالذات بعيداً عن الزحام، و(الحوار) معها عن أمور بعضها مؤنس للذات، وبعضها الآخر مؤرق، ثم نعمة التفاؤل بما هو آت، وأنه مهما اشتد الحال على امرئ عسراً، فإن اليُسْر من عند الله قريب.
***
ولذا، قررت وأنا طالب في الجامعة بمدينة لوس أنجلوس المذهلة بكل مباهج الدنيا وملذاتها أن (أهجر) اثنين من أعز الرفاق السعوديين كنت أقاسمهما العيش بمسكن واحد في واحد من أرقى أحياء تلك المدينة، وأن اصطفي العيشَ وحيداً في (شقة) متواضعة من بقايا أطلال القرن الماضي، قيمتها الحقيقية أنها كانت مجاورة للجامعة، أبلغها سيراً على الأقدام كل يوم، لأنقذ نفسي بذلك من أرق حافلات النقل العام، والتعرض بسببه لحفنة من المخاطر البشرية والآلية، خاصة تلك التي يزخر بها الحي المجاور للجامعة (الواتس).
***
نعم.. تعبت راعياً للأغنام وساقياً للزرع في صدر طفولتي، لأجنيَ ثمار هذه التجربة في أمريكا دارساً، وكان من أمري بعد ذلك ما كان.
***
المحطة الثانية:
الحياة.. صراط طويل من الانتصارات والانكسارات كما يقال، ولست في هذا استثناءً ولن أكون. مثلما أنني لست نادماً على شيء تمنيته ولم أدركه، فكل شيء يقدره الله تقديراً، ولا رادَّ له من ذلك إلا هو سبحانه.
***
كنت مثلاً أتمنى أن تدوم حياة سيدتي الوالدة فترة أطول من الزمن لأنعم بقربها حباً وحناناً ودفئاً إنسانياً، ولتشهد هي معي ما وهبني الخالق جل وعلا من نعم كثيرة ظاهرة وباطنة، والأهم من ذلك كله، كنت أتمنى أن تبقى إلى جانبي كي أنعم في ظلها الحنون بشيء من (شقاوة) طفولة الأمس بكل ما فيها من حب وفرح وعبث برئ، فقد كنت في حضورها (طفلاً) كبيراً وكأنني أحاول تعويض نفسي بعض ما فات من عمري غياباً عنها وحرماناً من حنانها الأسطوري.. لكن رحيلها إلى بارئها العظيم قبل عقد ونصف من الزمان ما برح جرحاً يدمي وجداني رغم إيماني وتسليمي بما قدره الله رب العالمين، إن خيراً أو شراً.
***
أما المكاسب التي أنعم الله بها عليّ عبر مسار حياتي الطويل فأكثر من أن تحصر فتذكر تفصيلاً، وأحمد لله حمداً بليغاً أن بدّل عسري يسراً في العديد من المواقف، ومنحني القوة والثقة وثبات النفس كي أصمد أمام محن الزمان وتحدياته، كان آخرها داءً عنيداً أودعني تخصصي الرياض نحو أربعة أشهر، حتى منّ الله عليّ بالشفاء، وأعود إلى الحياة أو هي تعود إلى، كان اسمى ما في هذه التجربة رغم قسوتها أن رفيقة عمري زوجتي -حفظها الله- كانت معي لحظة بلحظة خلال أشهر الأزمة، وكانت خلالها تغَدق عليّ محاسن إنسانيتها بسخاء: حباً وحناناً ودعاءً، وكانت شجاعة وسط إعصار الأزمة، فلم يضعفها الدمع الخفي ولا الحزن الصامت، ولم يصادر منها الخوفُ من الغد المجهول الإيمانَ بالله والرجاء منه في الوصول إلى نهاية سعيدة.
***
رحم الله أم عبدالرحمن رحمة الأبرار، فقد كانت كتلة (صلبة) من الحنان تقدمه بسخاء لمن يعنيها أمره، وكانت في المقابل، جسورة الإرادة شجاعة العزم، حاسمة في اتخاذ القرار، وكانت تتعايش مع نفسها ومع من حولها بسلام وشفافية واطمئنان.