* أحلم مستقبلاً بإذن الله بتدوين سيرتي الإدارية والعملية، مسَّلطاً الضوءَ ما استطعت على أهم ثلاث محطاتِ عملٍ سعدت بها عبر السنين، بدءاً بمعهد الإدارة العامة، عقب عودتي متخرجاً من الولايات المتحدة الأمريكية، في عام (1390هـ) مروراً بمجلس الخدمة المدنية خلال الفترة من رمضان المبارك (1397هـ) حتى منتصف عام (1416هـ)، أي ما يوازي ثمانية عشر عاماً، وانتهاء بالأمانة العامة لمجلس الوزراء بدءاً من عام (1416هـ) نائباً لمعالي الأمين العام فأميناً عاماً (1426هـ).
***
* وكل من المحطات الثلاث زاخر بالمواقف والدروس والعبر التي اعتز بمخرجاتها، حلوها ومرها، وقد أسهمتْ بقدر وافر في تشكيل شخصيتي الإدارية، وجاءت في مجموعها منسجمةً مع تحصيلي الأكاديمي في مجال الإدارة مبْتَعثاً، ومكملةً لما استوعبه الذهن الأكاديمي من دروس واستنتاجات ورُؤى.
***
* والأهمُّ من ذلك كله والأجملُ وجودُ حلقةٍ مصاحبةٍ من التشابه والتجانس في الخبرة العملية تتقاسمها المحطاتُ الثلاث، حيث مارست أعمال (الأمانة) لثلاث مؤسسات إدارية مختلفةٍ هدفاً وغايةً، رغم أهمية كل منها على حدة، تلك هي اللجنة العليا للإصلاح الإداري خلال فترة ارتباطي بمعهد الإدارة العامة، إلى جانب حراك التدريس والاستشارات، فمجلس الخدمة المدنية، الذي شرفت بخدمته وتأسيس أمانته العامة منذ لحظة الصفر على مدى عقدين من الزمن، قبل أن أحظى بشرف العمل في الأمانة العامة لمجلس الوزراء حتى الآن.
***
* ويقودني البوح إلى القول بأن لكل من المحطات الثلاث نسيجَها الخاص من التحديات والطموحات والإنجازات، ورغم ذلك، تبقى فترة عملي في معهد الإدارة العامة، هي المرحلة (البِكْر) في حياتي العملية، وهي أكثرها ثراءً علمياً وإثراءً عملياً لي، تجربةً وتحصيلاً.
***
* وليس في هذا القول تقليلٌ أو تهوينٌ من قدر التجربتين الأُخْريين (مجلس الخدمة المدنية ومجلس الوزراء)، غير أن عملي في معهد الإدارة العامة جاء محَّققاً لحلم قديم بدأ على مقاعد الدراسة في أمريكا، وازْددتُ مع السنين اقتناعاً به وإصراراً على بلوغه حتى تحقق بعون من الله وتوفيقه، كنتُ أرى في ذلك المعهد (توأمةً) إنسانية لغايتين أو مسارين يبدوان متضَادّين بادئ الأمر، لكنهما مكملان لبعضهما البعض، وهما: الرغبة في عدم النأي بالذهن عن النهج الأكاديمي، قراءةً وبحثاً وتدويناً، والعمل الميداني وشبه الميداني داخل صالة المحاضرة وخارجها أملاً في اكتساب معرفة إدارية ميدانية عن حراك الإدارة في بلادي، شئوناً وشجوُناً!
***
وبعد..،
* فإن (احترافي) العملَ الإداريَّ أمرٌ قدره الله لي، وأعانني عليه، وساقني إليه، لا مُرْغَماً عليه ولا مخْتاراً، وحين رحلتُ إلى أمريكا للدراسة الجامعية وما بعدها، لم يدْر في خلدي أن أدرسَ الإدارة أو أتخصَّصَ فيها، كانت وزارةُ المعارف، الجهةُ (الموِفدةُ وقتئذٍ) هي التي حددت ذلك التخصّص، فلم أعْصِ لها أمراً، ووجدتُ في ذلك الحقل متعةً ذهنيةً ووجدانيةً، واستقطب ذهني منذ البداية (العنصرُ الإنساني) في الإدارة، فكان عندي أهمَّ من كل مكوناتها الأخرى، فبالإنسان.. تكونُ الإدارة أو لا تكون! أمّا النظم واللوائح والتعليمات والإجراءات و(خرائط) الهياكل الإدارية.. فليسَتْ سوى وسائل تعين الإداري على التدبُّر والتَّدبير أولاً وآخراً!
***
* أما الأمر الآخر الذي شدّ انتباهي وزادَ التصَاقي بالإدارة فهو أنها ليست مبادئَ ونظرياتٍ وطروحاتٍ وتصنيفاتٍ فحسب، كما قرأنا وسمعنا، لكنها إلى جانب ذلك كله، تعتمدُ على (توظيف) الحسَّ المعرفيّ والذكاء الفطري والإدراك التجريبي في تدبير كثيرٍ من الأمور، فمَنْ كانت لديه تلك (المَلكَات)، حتى ولو لم يقرأ لـ(ماكس فيبر) و(بيتر دركر) وسواهما، استطاع إدارةَ وقيادة المنشأة الإدارية بكفاءة واقتدار. أنا هنا لا أقلّل من أهمية (أكاديمية) الإدارة بأيّ حال، ودورها المعرفي والإرشادي والتقويمي، لكن تظلّ (الموهبةُ الشخصية) (وتطبيقاتُها) في الإدارة سيدةَ الموقف في جلّ الأحوال!