جسم معدني يسيح في الظلمات.
إنه المسبار فوياجر 1 الذي أُطلِق عام 1977م وأخذ يشق طريقه في ظلمات الفضاء منذ ذاك وإلى وقت كتابة هذه الحروف، فكان هدفه أن يحوم في المجال الفضائي ويبث لنا صور ومعلومات نظامنا الشمسي. بعد 23 سنة من إطلاقه وصل المسبار إلى أبعد نقطة عرفناها من النقاط يمكن أن يصل إليها وهي مسافة 6 مليار كيلومتر عن الأرض، ومن تلك النقطة القَصيّة التقطت الآلة صورة للفضاء. لا تكاد ترى في الصورة إلا ظلاماً، لكن هناك.. هناك في جوف الظلام.. ترى نقطة.
نقطة زرقاء.. صغيرة.. ضئيلة.. باهتة.. تَتّزن على عمود من ضوء خافت.. لا تراها العين إلا بصعوبة. ما هي يا ترى؟ إنها كوكب الأرض. نظر أحد علماء الفلك إلى تلك الصورة، وجلس مشدوهاً. أخذ يتأمل، ويتفكر، ويتبصّر. رأى فيها عِبرةً عميقة. بعدها أعطانا العالِم مقولة شهيرة طويلة، افتتحها قائلاً: «إن كوكب الأرض من هذا الموقع البعيد لا يبدو ذا شأن، لكن لنا نحن فإن له شأناً. انظر لتلك النقطة. هنا نحن. إنها موطننا. على تلك النقطة كل شخص تحبه وتعرفه وسمعت به.. عليها كل شخص عاش. مجموع كل أفراحنا وأتراحنا.. آلاف الأديان والمعتقدات.. كل كائنٍ يأكل اللحم أو النبات.. كل بطل وكل جبان.. كل صانع حضارة ومدمرها.. كل ملِك وفلاح.. كل زوجٍ من الشباب العشاق.. كل أم وأب.. وطفلٍ آمِل.. ومخترع ومستكشف.. ومعلم أخلاق.. وزعيم فاسد.. كل من زعم أنه نجم كبير أو قائد عظيم.. كل صالح وطالح في تاريخ جنسنا عاش هناك، على نقيطة من غبار معلقة في عمودٍ من نور».
يا له من وصفٍ آسر. كل من ذهب للفضاء ورأى ضآلة الأرض يتعلم التواضع، فعلى ضخامة كوكبنا بالنسبة لنا فإنه لا شيء مقارنة بما يحويه الكون من أجرامٍ ذات أحجامٍ عظيمةٍ، وقد قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}، ولا نعرف فعلاً معنى هذه الآية إلا لو رأينا الصور الفلكية التي تبين مدى تفاهة مقدار كوكبنا مقارنة بغيره، غير أننا ننهمك في شؤوننا اليومية والأحداث الكبيرة التي نسمع بها حول العالم، ونظن أن هذه الأشياء هامة في حد ذاتها، حتى إذا نظرنا لها من مكان بعيد أدركنا أنها في الحقيقة لا شيء، رغم أنها أشغلت أهلها ومن حولها، وفي القرآن كلمتان عظيمتان لخّص الله بهما تاريخ أمة كاملة، ذلك أن إحدى الأمم أنعم الله عليها لكنها كفرت النعمة وبطرت وتغطرست فكان مصيرهم التفرق والتمزيق والبؤس، فكيف أخبر الله عنهم؟ كلمتان فقط: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}. هكذا فقط. انتهى. هذه قصة أمة كاملة، من بدايتها إلى نهايتها، بحلوها ومرها، غريبها ومألوفها، كل ما فعلوه وجربوه، كل ما تألموا منه واستمتعوا به، كل حروبهم وسلمهم، كل قصصهم وأحوالهم، أناسٍ كانوا يظنون أنهم مركز العالم وأعظم شعب.. كلمتان فقط تصفانهم، وصارت تلك الأمة مجرد حديث يُقَص على الناس.. عن أناسٍ كانوا.. ثم زالوا.
وستزول هذه الأرض.. هذه النقيطة الزرقاء.. وسيزول أهلها، مع كل حضاراتهم وعَمَارهم، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.