أتى العلم الحديث بمنافع عظيمة لنا، من ذلك الطائرة التي نقلتنا لقارات أخرى، ومن ذلك الطباعة التي وضعت العلوم في أيدينا بعد أن كان الأسبقون يسافرون سنين ليبحثوا عن العلم، مثل ما سافر موسى عليه السلام مسافة طويلة (ربما ألف كيلومتر في بعض التقديرات) باحثاً عن الخضر ومثلما سافر أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه من المدينة إلى مصر ليسأل صحابياً عن حديث واحد. وأما أنفع التقنيات المعاصرة بلا شك فهي الثورة الطبية التي قلبت مفاهيمنا عن الصحة، فالتخدير والعمليات الجراحية والمُركَّبات داخل الجسم (كزرع الحديد في العظام) والأدوية والكثير غير ذلك.. كل هذه من أعظم نعم الله الذي أطْلعنا على بعض العلم الذي أوصلنا لها.
لكن العِلم المعاصر ليس خيراً كله، بل أتى منه شرٌّ أيضاً، واسألوا أهل اليابان الذين ضُربوا بالقنبلتين النوويتين، بل الحروب الحديثة كلها قائمة على العلم والتقنية، وكذلك تقنيات التجسس على الناس التي انتشرت الآن انتشاراً عظيماً، حتى بدأت بعض الدول الغربية الآن تستخدم تقنيات تمييز الوجه في الكاميرات التي في الأماكن العامة.
لا تتوقف أضرار التقنية هنا، فمن الأشياء الضارة النافعة: السيارة. إنها نافعة لأنها توصلنا براحة وهدوء إلى وجهتنا ولو كانت بعيدة، لكنها أضرتنا ضرراً عظيماً لأنها تجعلنا جالسين طيلة فترة الانتقال، بينما في السابق كان الناس يمشون كثيراً وهذا المشي زاد في أعمارهم وقوّى صحتهم وأجسامهم، وإذا طالت المسافة استخدموا الدواب وهذه أيضاً أنفع من السيارات وفيها الكثير من الحركة. وقل نفس الشيء عن الوظائف في هذا العصر، ففي السابق كان المرء كثير الحركة في وظيفته، فيتحرك الحداد ليصهر والنجار لينشر والفلاح ليحصد، وهذا يحميهم من أضرار قلة الحركة وأمراض كثيرة مثل أمراض القلب والسكر والضغط والكثير غير ذلك، أما اليوم فصار الطبيعي – للأسف – أن عملك يجعلك مثل التمثال الجالس أمام الحاسب لساعات! لهذا لا يجب أن نستغرب من انتشار الأمراض، لأن قلة الحركة من أكبر أسباب الأمراض في هذا العصر.
ليس هذا فقط بل إن التقنية أضرت عقولنا! ماذا أقصد؟ في السابق كان عليك أن تحفظ جدول الضرب، ليس في المدرسة فقط بل حتى في حياتك اليومية إذا أردت الحساب، وإذا لم تحفظه فإنك على الأقل تستخدم الورقة والقلم لتضرب وتصنع العمليات الحسابية، أما اليوم فإن الجوال حل مكان عقلك، ومن يريد ضرب أرقام بسيطة (اضرب لي 6 في 8 الآن!) فلن يفكر أن يضربها في عقله بل ستمتد يده عفوياً إلى الجوال! وهذه كارثة، وصار ذكاؤنا أقل بسبب ذلك وقدراتنا العقلية بدأت في التدهور، فكثرة استخدام المخ تقوّيه، ومن ذلك الحفظ، فقلَّ اعتماد الناس على ذاكرتهم في حفظ أرقام الهاتف والأسماء ومعلومات أخرى كثيرة، فكان هذا من أسباب ضعف الذاكرة والتي خملت واعتمدت على التقنية. أيضاً أنظمة الملاحة وبرامج الخرائط بقدر ما ساعدتنا فإنها في نفس الوقت أضعفت قدرات خاصة لدينا وهي قدرة المخ أن يرسم خرائط ذهنية.
التقنية نفعتنا في أشياء، لكن لدينا القدرة أن نتفادى ضررها في الأشياء الأخرى، وذلك بألا نعتمد عليها اعتماد الرضيع على أمه، بل ألا نستخدمها إلا وقت الحاجة، وأما غير هذا فعلينا أن نمرّن أدمغتنا لنقويها باستمرار، ونكثر من الحركة حتى لو كنا في المكاتب والمباني.