في القرن التاسع عشر الميلادي، وتحديداً في سنة 1848م، حصل شيء مدهش.
خرج فينياس غيج لعمله. كان فينياس يعمل مع فريق من الرجال على إنشاء سكة حديد في ولاية فيرمونت الأمريكية، ولم يكن في ذلك اليوم أي شيء خارج عن المعتاد، ذلك أنَّ عمل فينياس على إعداد الطريق للسكة - وذلك بتفجير الصخور لتمهيد الطريق - كانت وَتِيريّةً رَتِيبة لا تتغير، فيبحث عن الصخور ويصنع خلالها حفرة عميقة ثم يضع فيها المسحوق المتفجّر وفتيلاً ورملاً، بعدها يرصُّ هذا كله بأنبوبٍ حديدي ويبتعدون ويفجرون. في ذلك اليوم نسي فينياس وضع الرمل، وضرَبَ الصخرة بالحديدة خطأً فقدح شرارةً لامست المسحوق فحصل الانفجار فوراً والذي أطلق الحديدة كالصاروخ فاخترقت جانب رأسه خلف عينه، وخرجت من أعلى منتصف الرأس. من يرى هذا المنظر لن يشك أن فينياس فارق الحياة، لكن الذي حصل أن فينياس تشنّج جسده قليلاً وما هي إلا دقائق حتى بدأ ينطق، ثم ركب عربة وظل فيها جالساً إلى أن أُوصِل إلى الطبيب والذي خرج من مكتبه ليرى مشهداً لم يره أحد من قبل.. رجل جالس بهدوء وفي جمجمته أسطوانة حديدية طولها متر وقُطرها أكثر من 3 سم!
لم يمُت فينياس، وعاش بعدها سنين، وقصّته أثارت الكثير من الدهشة وألقت ضوءاً على حقائق طبية جديدة، من أبرزها أننا عرفنا أن تلك الحديدة قطعت الفص الأمامي من المخ، وعرفنا أن الإنسان يمكنه أن يعيش بدون هذا الجزء، لكن بثمن، فقد صار فينياس عصبياً بذيئاً متقلباً في رأيه، ومثل الطفل في مهاراته الاجتماعية.
في الثلاثينيات الميلادية بحث طبيب المخ والنفس البرتغالي أنطونيو إيغاس عن طريقة يهدّئ بها مرضاه النفسيين، وظهرت «لوبوتومي» أو جراحة فصوص المخ، وفيها يقطع الطبيب أجزاء في الفص الأمامي، ومن النتائج أن الشخص يصير أهدأ لكن يفقد قدرات عقلية منها التخطيط للمستقبل. من المعلومات الشيقة التي أظهرتها هذه التجارب وغيرها ارتباطاً قوياً - حتى من الناحية البيولوجية - بين القلق وبين التخطيط (والتفكير في المستقبل عموماً).
من العِبَر التي تَبرُز لنا مما سَلَف أنه لا أبيض وأسود في حياتنا في ما لدينا من أعضاء وحواس وقدرات. الزائدة الدودية مثلاً يمكن أن تلتهب وتسبب ألماً شديداً وربما الوفاة إذا لم تُعالج، لكن - عكس ما كان يظنه العلماء - ظهر لنا حديثاً أنها جزء من نظام المناعة. قد يمكن أن يزيل المرء الألم الجسدي من الأعصاب بطريقةٍ ما فيرتاح لكن سيفقد أهم نظام إنذار لديه، ولن يدرك إذا ما اخترقت آلة حادة قدمه أو أحرقت النار يده. تستطيع أن تستعين بالطب الحديث لتزيل أجزاء المخ التي تثير القلق والتوتر فترتاح - خصوصاً لو كنتَ ممن يعاني من مرض القلق - لكن ستفقد القدرة أن تخطط وتفكر في المستقبل.. وأن تعيش متعة تخيُّل سعادة مستقبلية يمكن أن تحصل.. ولمن يعاني الغم والحزن - واللذين يتجليّان في أشد صورهما في مرض الاكتئاب - فإن الإنسان على وشك أن يجد طريقة يؤثر بها على ذكريات الماضي، وذلك تجارب حديثة تعاملت مع الذكريات، وربما تقدر أن تمحو الأحداث المؤلمة من ذاكرتك، لكن لن يخلو هذا من أعراض، وربما تذهب بعض الذكريات السعيدة أيضاً.
هل تقبل بهذا؟
هل أيٌّ من هذه المبادلات طيبة؟