الأوهام، قد تكون مبهجة في بعض الحالات، وهي بهذا تضيف شيئاً من السعادة إلى المرء، وتساعده على زيادة نسبة ساعات السعادة في حياته سواء قلّت أو قصرت، والتي ربما لو أحصاها الإنسان لوجد نسبتها إلى عدد ساعات الحزن والألم غير كبيرة، ولهذا فالعيش مع الأوهام وليس الأحلام أو الأماني، عامل مساعد للخروج من ضغوط الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وما يدور حولنا من أعاجيب وقصص يندى لها الجبين، وكأن عالمنا العربي في بعض أركانه عالم آخر، رغم أنه مهد أنقى وأزكي حضارة، وهي الحضارة الإسلامية الجميلة الرائعة الداعية للخير والمحبة والوئام والسلام.
من الناس من يتوهم أنه شاعر الزمان، ومطرب الأنس والجان، ومنهم من يرى نفسه الأديب الأريب، الذي فاق في فنه الجاحظ ، وابن المقفع، ومنهم من يتوهم أنه ابن رشد في الفلسفة، أو ابن رشد الحفيد، أو الغزالي أو غيرهم.
هم متوهمون لكن وهمهم يساعدهم في جلب السعادة لهم، لأنهم يتقمصون إنجازات تلك الشخصيات، ويعيشون دورها، وهكذا يكون الوهم قد جلب السعادة للكثير، وربما أن البعض يحتاج إلى ذلك.
وحتى لاعبي الكرة منهم من يتوهم أنه أفضل من غيره، ويضع اللائمة على المدرب لأنه يرى نفسه أجدر بأن يكون داخل الملعب لا على دكه الاحتياط.
اذكر أن أحداً من أولئك ومنذ زمن ليس بالقريب، قد أهدى إلى مشكوراً كتاباً من شعره، وذكر لي أن هذا الشعر نادر في هذا الزمان، وأنه من غير اللائق ألا يجند له عدداً من المثقفين والشعراء لقراءته والتعرف على ما فيه من إبداعات، ومع التقدير لجهده الكبير وكرم عنايته بإهداء كتابة إلا أنني لم أجد في ذلك الكتاب شعراً ، وإنما سرداً لكلمات متقطعة، ربما أن مراميها الخفية فاقت قدراتي المتواضعة، وكررت القراءة لعلّي أفهم من ذلك الشعر شيئاً، لكن مع كل أسف عدت خالي الوفاض.
وربما توهم أنه قد قال شعراً رائعاً بز فيه المتنبي، والبحتري، وابن زيدون، وابن عمار ، لكن من العقل والمنطق أن نتركه على سجيته حتى يعيش ذلك الدور المبهج، وإلا أصبحت حسوداً أبحث عن ما يحبط ولا يشجع، ويحزن ولا يفرح.
والحقيقة أن في ذلك نوعاً من الحسد لو أن الإنسان حرم الآخر من متعه الوهم المسعد، فما سيضر لو ترك الناس بعضهم بعضاً يتمتعون بسعادة الوهم وبهجته، وإن كان لديهم شيء من الملاحظات القليلة أو الكثيرة فيمكنهم الاحتفاظ بها. أما إذا قُدم الكتاب للنقد العلمي فذلك شأن آخر، فالأمانة العلمية تقتضي التدقيق والتنقيب والبحث ولاستقصاء ومن ثم الحكم العادل البعيد عن المجاملات أو التحامل.
وفي مجال الحب يمكن للمرء أن يعيش الوهم ويستمتع به، وقد يقنع نفسه أن غادة حسناء، مياسة، أسفلها كثيب وأعلاها قضيب، قد عشقته وهامت به، فيعيش ذلك الوهم ويستمتع به، وكان بعض الظرفاء يقولون : اعشقوا فإن العشق داعية المروءة، يطلق اللسان، ويفتح حلبة البليد، ويسخي كف البخيل، ويشجع فؤاد الجبان، ويبعث على النظافة، وحسن الملبس، وشرف الهمة.
هناك من يتوهم أن الغادة الحسناء الصغيرة قد تتعشقه، وقد بلغ من الكبر عتياً، ويلبس ذلك الثوب ويعيش فيه، ناسياً أو متناسياً أن الشاعر يقول:
إذا قلّ مال المرء أو شاب رأسه
فليس له في ودِّهن نصيب
والحقيقة في هذا الزمان، أنّ من شاب رأسه مع توفر المال لديه، فقد يكون له نصيب من تلطفهن ورعايتهن، أما حبهن، وودهن له، فهذا يحتاج إلى وجهة نظر. يقول الشاعر:
نظرت إلى بعين من لم يعدل
لما تمكن طرفها من مقتلي
لما رأت وضح المشيب بعارضي
صدت صدود مغاضب لم يقبل
فجعلت أطلب وصلها بتعطفي
والشيب يغمزها بألا تفعل
أما الآخر فيقول:
وقائلة: خل الهواء لرجاله
أن الهواء بعد المشيب جنون
إن هذه الأوهام الجميلة، إن نفعت فإنما تنفع صاحبها، وإن ضرت فإنما تضره، ولا تتعداه إلى غيره.
أما أولئك المتوهمون بإنشاء دولة داعش بالطريقة التي يفعلونها، فإنما هم واهمون وهم أكثر من وهم الشعراء والعشاق، لكنه وهم تعدّى شره صاحبه إلى الآخرين، بل تجاوز البشر إلى ذلك الدين العظيم دين التسامح والسلام، دين الخير والمحبة، الدين الإسلامي الذي اقتبس اسمه من نهجه وحقيقة تعاليمه.
أولئك الداعشيون واهمون، وسيظلون كذلك حتى يتم القضاء على معاقلهم، ويبقى فكرهم محتاجاً إلى حرب ضروس، لانتزاعه من وهمهم الذي عشعش في عقولهم.