منطقتنا العربية تعيش حالة حرب في أجزاء منها وحربها بأيدي أبنائها في الغالب، والأسباب متعددة لا تخفى على الكثير، وإن تباينت الرؤى حول ذلك. فهناك من يرمي بتلك الرزية على أعداء الأمة، وكأنه لا يوجد في الأمة من يبعث الفتنة ويؤججها، ويدفعها إلى الضرام بكل ما أوتي من قوة، للبحث عن كرسي وثير، أو فكر غير مستنير، أو لذة انتقام، أو جبلة من وسوسة شيطان، وهناك من يبحث عن التغيير دون أن يدرك أن التغيير ليس بالضرورة أن يكون إلى الأفضل، وأن الإصلاح مع الاستقرار أجدى وأنفع من التغيير الذي يعقبه فوضى، واقتتال يهدم كل ما تم بناؤه، وليس هدم مباني، ومؤسسات فحسب، وإنما هدم ما صنع عبر التاريخ المديد من تآلف ومحبة وتعايش وتلاحم، والإنسان الكيس لا يقطع الأمل، ولا يستكين إلى الكسل، وينظر بنظرة الأريب، الذي يرى المشهد من منافذه كلها، وليس من جهة واحدة، ويحكم باختيار أقل الأضرار، وإن صاحب ذلك قليل من الدمار.
الحروب القائمة الآن في بعض الدول العربية، أظهرت تبايناً في توجهات مكونات الشعوب، وتنازعاً في حرب فكرية صاحبتها حرباً ميدانية، وأضحى السلاح أداة سائدة لبسط فكر بعينه، بدلاً من بقاء ميدان التنازع في أروقة المؤتمرات والندوات والمحافل الثقافية، وهذا خطر غير يسير، لا سيما إذا كانت الكفتان متعادلتان، ومن الصعب أن ترجح إحداها بالأخرى، مما يعمل على إطالة البلوى ويكون وقودها أولئك الذين لا يعبهون بالأفكار والفلسفة، وإنما يبحثون عن لقمة عيش تسد رمقهم، وقطعة قماش تقيهم برد الشتاء، ومنزلاً يستظلون فيه عن حر الصيف.
هذه الحروب الفكرية مرت بها الديار الإسلامية عبر تاريخها المديد، وإن خبت لمدة طويلة فإن بعض آثارها ما زالت في عقول البعض، تظهر كلما شب ضرام فتنة هنا أو هناك.
وفي الأندلس أثناء الحكم الإسلامي لها، مرت ببعض ذلك التباين في الأفكار، لكن سرعان ما يتم القضاء عليها من قبل الحكام هناك، كما كان حال الربض والبرغواطة ومن بعدهم التناقض بين المرابطين والموحدين حول أفكار الغزالي، وابن حزم الظاهري.
في الأندلس النصرانية لم يكن الأمر كذلك، فالجميع في الغالب يخضع لتعليمات البابوية. والحروب التي دارت هناك بين ملوك الأندلس النصرانية، هي حروب على الأرض والسلطان وتوسيع النفوذ، والانتقام في بعض الأحيان، ومن وسائل المصالحة التوسط، أو تدخل البابا، والمصاهرة في كثير من الحالات.
فبعد أن توفي الفونسو ريموس عام 1157م، كانت مملكته شاسعة، فقسمها بين ولديه، فنال أكبر أبنائه، وهو «سانشو» ملك قشتاله القوية الغنية، وحظي ابنه الأصغر فرناندو الثاني الملقب في المصادر العربية (بالببوج) ملك ليون، واستغل ملك البرتغال، وهو أيضا أحد أقربائه، ضعف مملكته، فغزا مملكة ليون، واستولى على بعض الأراضي، وفكر ملك ليون في الأمر، ووجد أنه سوف يخسر الأرض أمام خصم قوي، ففاوض ملك البرتغال على الصلح، والتنازل عن الأرض، كمهر لزواجه من أوراكا ابنة الفونسو الثاني ملك البرتغال، وكان حقاً أمراً جميلاً أن يتم ذلك الصلح والتنازل عن الأرض كمهر لابنة ملك.
وبعد وفاة فرناندو، تولى الحكم ابنه الفونسو التاسع، ويبدو أنه أراد أن يسير على نهج والده، لكن لسبب يختلف، فهو يريد أن يساعده ملك البرتغال ضد خصومه أبناء عمومته في قشتالة، فطلب الزواج من ابنة ملك البرتغال الأميرة تريسا عام 1191م، رغم القرابة بين الزوج والزوجة، حيث أن أروكا والدة الفونسو التاسع هي أخت لساشو ملك البرتغال، وهناك رفض البابا هذا الزواج، وأصدر البابا قراراً ببطلانه، بسبب القرابة بينهما، كما أصر على أنه زواج محرم يجب أن يفسخ، ولكن الزوجين قد أنجبا ثلاثة أولاد، ومع ذلك نزل الملك والملكة عند رغبة البابا، وتم الطلاق.
وهكذا أصبح لدى ملك ليون، ثلاثة أولاد، من زواج محرم، كما يراه البابا، والتفت الفونس التاسع إلى الموحدين، وتحالف معهم، وساعدوه كثيراً، حتى كاد أن يسلم، لكن البابا كثف من ضغوطه، وأصلح ما بين ملك ليون، وخصمه ملك قشتالة، واجتمع الخصمان ضد المسلمين، وعندما وقعت معركة العقاب عام 1212م، كان الظفر فيها للنصارى، وتعتبر المعركة الفاصلة التي أدت إلى سقوط المدن الأندلسية عدا غرناطة في يدي النصارى، وانتهاء الحكم الإسلامي في ذلك الجزء من الأندلس حتى الآن.