علّمنا التاريخ أن سائر الأمم قد مرت بفترات تم فيها تأجير عقول الكثير من الناس لاستخدامهم لأغراض سيئة، أو صالحة، ولكن غالباً ما تصب السيئ منها والصالح لأغراض شخصية لعدد محدود من الناس، وعلمنا التاريخ أيضاً أن تأجير العقول قد أدى بالمأجرين إلى عواقب وخيمة، وحاز المستأجرون على مغانم كثيرة، أو باؤوا بالخسران مع من أجروهم عقولهم.
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، استطاع مسيلمة الكذاب أن يقنع من حوله بأنه نبي، ونسج من الترهات والأقاويل ما استمال به عدد غير قليل، وسارت سجاح مسيرة مسيلمة الكذاب، وادّعت النبوة، مقنعة من حولها أن الإسلام قد أوضح أنه لا نبي بعد محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يقل لا نبية بعدي، أجل الله الإسلام عمّا تقول، وكذا قال بالنبوة الأسود العبسي، وغيرهم كثير، فكان مآل مسيلمة القتل وكذا الأسود، بينما عادت سجاح إلى الإسلام، وأمتد بها العمر إلى أن توفيت في عهد معاوية بين أبي سفيان، ومن الطريف أن مسيلمة قد تزوّج سجاح، أثناء ادّعائهما النبوة، وكان لهم مهر معين، وقصة طريفة، نجدها مسطرة في بطون أمهات الكتب، أما عن صحة تلك القصة وما ذكر من شعر حولها، وكذا غيرها من القصص، في زمانهما وزمان غيرهما فالله اعلم بصحة ذلك.
بعد الفتنة التي حدثت بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، ظهر الخوارج لأسباب معروفة، وكان أبرزها فكرة التحكيم وما تلاها من أحداث، وقد ابتليت الأمة بهذا الفكر فترة غير يسيرة، وكان منهم القادة والشعراء كقطري بن الفجاءة.
وفي فترة لاحقة ابتلت الأمة بفئة ضالة وهي القرامطة، وقد هاجموا المسلمين في الحج وقتلوا ثلاثة آلاف، ونهبوا وسلبوا، قيل أنهم هدموا الكعبة وأخذوا الحجر الأسود معهم، حتى أعاده الله بعد اثنين وعشرين عاماً.
وفي المغرب الإسلامي ابتليت الأمة برجل يدعى صالح بن طريف البرناطي نسبة إلى برناط، وهو حصن يقع في شذونه بالأندلس، ووفد إلى منطقة نامسنا منذ أوائل القرن الثاني من الهجرة، ونشر مذهبه بين أهلها، فادّعى النبوة، وزعم أنه المهدي الذي يخرج آخر الزمان، وجعل الصلوات خمساً في النهار وخمساً في الليل، والصوم في شهر رجب، وأباح لهم الزواج بأي عدد من النساء، وكثر عدد أنصاره، حتى أصبحوا أمة كبيرة، يطلق عليها برغواطة، والواقع أنهم لا ينتمون إلى قبيلة واحدة كما ذكر ابن خلدون، وإنما هم خليط من قبائل شتى، يجمعهم مذهب واحد وهو المذهب البرغواطي، وبعد قيام المرابطين بحركتهم، كان من الطبيعي أن يحاربوا هذا المذهب الشاذ، لا سيما أن المرابطين يتبنون مذهباً أقرب إلى النقاء، وكان قائدهم عبدالله بن ياسين هو المؤسس لهذا الفكر، وقد قتل في هذه المعركة وكان فقيهاً شديد الورع والتقشف، لكنه أيضاً شديد التعصب لمذهبه، بيد أن عبدالله بن ياسين مع ورعه كان شغوفاً بالنساء، يتزوج في كل شهر عدداً منهن ويطلقهن، ويسعى إلى خطبة الحسان رائعات الجمال أينما وجدن، كما أن له أحكاماً شديدة ذكرها أبوعبدالله البكري في معجمه «المسالك والممالك» وهناك بعض الأحكام الشاذة التي كان يطبقها عبدالله بن باسين على المرابطين، ومنها أخذه الثلث من مختلف الأموال بحجة أن ذلك يطيب باقيها، وهذا بخلاف الشريعة، ومنها أن الرجل إذا دخل في دعوتهم، وأبدى توبته على سالف ذنوبه، قيل له إنك ارتكبت في سالف شبابك ذنوباً كثيرة، ويجب أن يُقام عليك حدودها، وتتطهّر من إثمها، وتُقام عليك حدودها، حتى وإن تاب، فيجلد إن كان قد زنى مائة جلدة، وحد الشارب ثمانين جلدة، ولمن ترك الصلاة مع الجماعة عشرون جلدة.
كان الأمر فيما مضى يقتصر على مناطق هنا أو هناك، أما اليوم وبوجود وسائل الاتصال الكثيرة والمتنوّعة، يمكن للفرد الوصول إلى عقول الرعاع من الناس فيدعوهم إلى ما يريد، فينساقون دون هوادة، وداعش والنصرة أحد تلك الأمثلة القائمة الآن، ولم يقتصر ذلك على الإرهاب، وإنما تعداه إلى تفسير الأحلام، حيث يقوم المفسر بإبهار المتصلين به بما يجعلهم يحلمون بمستقبل زاهر، ويعيشون في أوهام تفسيره وتضليله، وما يهمه هو جمع المال، أما ما يصيب المتصلين من خيبة أمل إذا لم يتحقق ما كانوا يحلمون به، فذلك ليس من شأنه، وهكذا يفعل المتاجرون بإخراج الجن من البشر كما يدّعون، وكذلك الزاعمون بأنهم قادرون على إجلاء السحر من المسحورين، وهكذا تستأجر العقول لمصالح شخصية، أو ربما تحقيق مآرب سياسية.