قد يحلو لنا نحن العرب أن نفخر بمساهماتنا في تراكم الحضارات الإنسانية المتتالية، وهذا يضيف للمرء شيئاً من الاعتزاز والبهجة والاستمتاع بنتائج أفعال الأجداد، لمن يؤمن بالمساهمة العربية في الحضارة الإنسانية وقد يكون بخلاف ذلك لأولئك الذين لا يرون دوراً يذكر للعرب في هذا المنحنى الإنساني، لكن التاريخ لا يؤمن من خوف، ولا يسمن من جوع، فهو غير قادر على حماية الحدود، والحد من النزاعات، ودرء الاقتتال الداخلي، كما أنه غير قادر على رفع مستوى الإنتاج الوطني، أو الحد من الفقر، أو توفير الوظائف وتقليل البطالة، فمع جماله وإشباعه للنفس، إلا أنه عاجز عن التفاعل مع متطلبات الآنية التي يحتاجها الفرد في حياته الفانية.
في كتاب للدكتور هونكي يمكن للمرء التعرف على بعض الآراء الغربية حول المساهمة العربية في الحضارة الغربية، وإن كان الكاتب مظهراً لفضائل العرب بصفه تحمل شيئاً من المبالغة إلا أنها لا تخلو من الحقيقة، وهو يرى أن المسلمين طلبوا العلم تكليفاً من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم التفتوا إلى التراث اليوناني، وأماطوا التراب عن أوراقه، ونفخوا الغبار عن صفحاته، فالعرب قد حفروا تحت أنقاض المدن المهدمة بفعل الاقتتال المسيحي لينقذوا شيئاً من بقايا المعرفة المدونة في كتب اليونان العريقة، ومن ثم عمدوا إلى ترجمتها وبعث الروح فيها من جديد، وبعد ذلك نقلها إلى أصقاع العالم، فهم من أنقذ الحضارة اليونانية بجهد وعناء، وكانت على وشك الانقراض الأبدي شأنها شأن حضارة المايا والأنكا في جنوب أمريكا.
لنا أن نتصور الخسارة الإنسانية لو أن العرب والمسلمين بشكل أعم لم يقوموا بتلك الترجمات الكثيرة، وينقلونها إلى العالم الآخر، ولهذا فإن المرحلة العربية في تلك المسيرة الحضارية الإنسانية كانت هامة جداً لأنها قد حافظت على العلم ومن بعد ذلك قامت بنقلها إلى من انتفع به.
وقد أنقذوا الحضارة اليونانية التي بقيت قروناً مهملة مجهولة في الأقبية والأبنية العتيقة تحت أكوام الحجارة والغبار، غير أنهم لم يصنعوا لأنفسهم بشكل كافٍ ما يساعده على النمو والازدهار، وعلينا ألا ننسى أن ذلك النقل المعرفي كان متوازياً من المشرق في بغداد أو المغرب في طليطلة وقرطبة وغرناطة.
وفي قضية العلاقة بين العرب والعلوم تختلف الآراء، بين مؤلفي التاريخ، والبعض الآخر يقول إنهم نقلوها، وفي الوقت نفسه يقللون من شأن النقل ويصورونه كما لو تنقل المصنفات من مبنى من طابق إلى آخر، أي أنهم لم يضيفوا شيئاً يذكر، وهذا رأي مؤرخي الحضارات التقليدية لدى الغرب، يذكر الدكتور هونكي أن تاريخ أوروبا الحضاري منذ القدم وحتى العصر الحالي يحتوي على سبعمائة واثنين وخمسين ألف صفحة مع خمس آلاف إشارة لا يذكر فيها العرب أو الإسلام، ولا المحمدون، ولا رسول الإسلام إطلاقاً، أما مؤرخ الحضارات «أرثور كوسليو» فهو يذكر العرب في كتابة الذي صدر عام 1959 في أربع جمل فقال: نقلوا فقط الإرث الهيليني القديم، وكان لهم معرفة ضئيلة وماكنوا يتمتعون بصفات خلاقة، في الفترة التي كان الإرث في حوزتهم لم يفعلوا شيئاً يستفيدوا منه وبقي الاحتكار العربي اليهودي للإرث عقيماً لمدة ثلاثة قرون.
هذا هو رأي ذلك المؤرخ، وفي الواقع أن العرب لم يستفيدوا الفائدة الكثيرة من الإرث اليوناني، لكنهم لم يخرجوا خالي الوفاض من ذلك العلم الفلسفي، بل إن البعض منهم قد أحال جزءاً منه إلى تطبيق علمي في المجال الكيميائي والرياضي والفلكي والطبي، لكن الحقيقة تبقى أنهم لم يضعوا قواعد فاعلة لنقل الفلسفة إلى معرفه تطبيقيه قادرة على التطور مع مرور الزمن، وانصرافهم إلى الدراسات النظرية، دون معرفه تراكمية تؤدي إلى تطور صناعي يساعد في تصاعد وتيرة التطور العلمي التطبيقي، بينما استطاع الغرب من خلال ما نقله وترجمه العرب أن يحققوا الكثير من المعارف التطبيقية التراكمية التي أدت إلى اليون الشاسع في التقدم الصناعي والمعرفي بين الغرب والعرب في الوقت الحاضر.