كثرت في زماننا الملل والنحل، وامتطى كل فرد أو مجموعة صهوة واحد من تلك، أو مزج بين آحادهم، وأضحى المرء في حيرة من أمره، لا لما وقع في قلبه من إيمان بأذن الله، ولكن لما يشاهده من تنافر واختلاف لم يعد خلافا فكرياً فحسب يزول مع الوقت، ويبقى الحق مجلجلاً واضحاً، لا مراء فيه، لكن ما حدث ويحدث وربما سيحدث أن ذلك الاختلاف أصبح تنافراً، وبعد ذلك تقاتلاً، وقوده الناس والشجر والحجر، والهواء والأنهار والبحار، وكلنا يعلم أن النار من مستصغر الشرر، أو كما قال امرؤ القيس الذي عاش في العصر الجاهلي، وكان البعض والعياذ بالله قد رام أن يسلك مسلك كان سائداً قبل بزوغ نور الإسلام، يقول امرؤ القيس:
الحرب أول ما تكون فتية
تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا استعرت وشب ضرامها
عادت عجوزاً غير ذات خليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت
مكروهة للشم والتقبيل
أنه خليط عجيب من الآراء المختلفة، والعقول المتنافرة، والأحقاد المتبادلة، وكل يرى أنه المالك الأوحد للحق، والأدهى أنه يقتل غيره لإجباره على راية حتى وإن كان رأياً منحرفاً كما هي حال داعش، التي لا تتوانى عن قتل كل معارض، أو مخالف مخالفة بسيطة في الفروع.
يسطر لنا التاريخ والواقع الحالي، أن المغرب العربي في غالبة يتبع المذهب المالكي، وسار كذلك دون مشاكل مذهبية تذكر لفترة طويلة من الزمن، حتى وإن تباين القادة في تلك البلاد عبر التاريخ في منطقة بعينها، ففي عصر الأمويين بالأندلس كان لرجال الدين دور بارز في عهد هشام بن عبدالرحمن الداخل، الذي كان تقياً ورعاً، أما في عهد ابنه الحكم بن هشام الملقب بالربضي، فقد كان الأمر مغايراً، ويقول ابن حزم أن الحكم كان مجاهراً بالمعاصي، سفاكاً للدماء، ويقال إن خمساً من جواريه اللواتي استخلصهن لنفسه، وملكهن أمره، أجمعن على مغاضبته، إما ليزداد شوقاً إليهن، أو حتى لا يجلب إليه المزيد من أمثالهن، وقد قال شعراً بعد تلك المغاضبة منه ذلك البيت:
قُضبت من البان ماست فوق كثبان
ولّينَ عنّي وقد أزمعن هجراني
ويذكر أنه أفحل بني أمية في الأندلس في قوته على الجماع، حيث جمع مئات الجواري من مختلف الأجناس، ولهذا فأقول ربما غاضبنه من باب الدعابة والدلال، فرجل مثل الأمير الحكم، لا يمكنهن هجرانه.
واستمر الحال في الأندلس، حتى جاء عصر الطوائف، وظهور فكر الفيلسوف على بن أحمد بن حزم، وتثبيته المذهب الظاهري، وهو المذهب الذي تجلى على يد خلف بن داود عام 270 هجرية في المشرق الإسلامي، وقد حورب ابن حزم وطرد من قرطبه، وأحرقت كتبه، ولم يصلنا منها سوى أربعة، وظهر المرابطون في المغرب وامتدوا إلى الأندلس، على يد يوسف بن تاشفين وكان تقياً ورعاً، متمسكاً بالمذهب، وقد أحرق كتب الغزالي، ثم جاء الموحدون بفكرهم واعتقادهم في المهدي بن نومرت مع ورعهم وتدينهم، وعندما وصل الحكم إلى يعقوب المنصور بن يوسف بن عبدالمؤمن بن علي، نبذ التمسك بالمهدي، وكان يشكو من تعدد الآراء، ولهذا فقد طارد علم الفروع، وأمر بإحراق كتب المذهب المالكي مثل مدونة سحنون، وكتاب بن يونس، ونوادر بن أبي زيد، وكتاب التهذيب للبرادعي، وواضحة ابن حبيب، وأمر الناس بان يكفوا عن الانشغال بعلم الرأي وناصر المذهب الظاهري، وكان يسمى بالحزمية نسبة إلى ابن حزم، وعندما مر يعقوب المنصور بقرية منت ليشم بالأندلس، وهي قرية ابن حزم، وبها قبره، قال: عجباً لهذا الموضع يخرج منه هذا العالم، وقال: أن كل العلماء عيال علي ابن حزم.
ومن مؤشرات تمسكه بهذا الفكر الجديد القديم أنه كان ينوي فتح مصر وضمها إلى ملكة، لأنها في نظره بلداً تجنح إلى البدع، ويشيع فيها المنكرات، وهذا ما ذكره المعاصرين له مثل المراكشي، والرحالة ابن جبير، ومع احترامنا لابن جبير في رحلاته إلا أنه غير محق ولا منصف حيث جامل المنصور، وقال: «وليتحقق المتحقق، ويعتقد صحيح الاعتقاد، إنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب، لأنهم على جادة واضحة، وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية، فأهواء وبدع، وفرقة ضالة وشيع، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها، كما أنه لا عدل ولا حق ولا دين على وجهه، إلا عند الموحدين أعزهم الله، فهم أئمة العدل في هذا الزمان، وكل ما سواهم من الملوك في هذا الأوان، فعلى غير الطريقة.. إلخ».
أن كلام بن جبير رحمة الله كلاماً لا يمكن قبوله، فهل أصبح الحق في يد يعقوب المنصور وحسب، وهو المخالف لمذهب والده وجده، ومذهب حكام المغرب والأندلس، قاطبة منذ ظهور المذهب المالكي ووصوله إلى تلك البلاد.
إن مثل تلك الآراء، وتلك الأفكار، عندما يتم تبنيها من جماعات أو دول ستسبب الكثير من الفرقة والتنازع والخلاف، ولكن من حسن الطالع أنه لم يفعل ولم يغزو مصر حتى وإن كان قد نوى، وإلا لكانت الحرب بين المسلمين، مع ترك أعدائهم في الأندلس، يعبرون البحر إليهم ليقضوا على الجميع.