خسرنا على مدى عشرات السنين الماضية عدداً لا يُحصى من المباني التراثية في جميع مناطق المملكة. وعندما نسترجع في ذاكرتنا المباني التراثية القديمة التي كنا نعرفها في طفولتنا نُصْعَق حين نكتشف أن ما تبقى منها ليس سوى أقل القليل! لقد التهمتها الطفرة العمرانية التي اجتاحت مدن وقرى المملكة وخاصة منذ السبعينيات الميلادية من القرن الماضي فكانت تلك المباني ضحية سوء التدبير واللامبالاة والافتقار إلى الأنظمة التي تحمي التراث. والأسوأ من ذلك أن بعض تلك المباني ذهبت ضحية للأطماع والتعديات، وذهب بعضها بسبب الجهل بأهميتها والمبالغة في تفسير بعض النصوص الدينية.
تلك المباني والأمكنة التراثية التي ذهبت إلى غير رجعة لن تعود ثانية، وقد فقدناها إلى الأبد! ومن المعروف أن جميع الأمم تحافظ على تراثها وتحمي الأماكن والمباني التراثية لأنها تمثل الإرث الوطني للأمة، فهي ليست ملكاً لأحد بعينه وهي لا تخص جيلاً واحداً وإنما إرث مشترك لكل الأجيال فلا يحق لجيل من الأجيال التفريط فيها لأنه بذلك يخون كل الأجيال السابقة التي حافظت عليها ويغبن جميع الأجيال القادمة التي حُرمت من هذا الإرث الوطني.
وقد أقام مركز عبدالرحمن السديري الثقافي بالجوف قبل عامين ندوة بعنوان «الآثار: إنقاذ ما يمكن إنقاذه» تناولت قضايا الآثار وخاصة المحافظة على ما تبقى من الأماكن والمباني الأثرية المُعَرَّضة للزوال، وتم تقديم أوراق عمل أعدها بعض أساتذة علوم الآثار في الجامعات السعودية والعربية، وتمخضت الندوة عن توصيات مهمة أتمنى أن تجد طريقها للتطبيق.
لكننا بحاجة إلى ما هو أكثر من الندوات والتوصيات، ولعل الجهد الذي تقوده الهيئة العامة للسياحة والآثار يسهم في إنقاذ تراثنا من الضياع وخاصة المباني الأثرية المهددة فعلاً بالضياع. ومنذ أيام وجَّه سمو ولي العهد بعدم إزالة المباني التراثية إلا بعد التنسيق مع الهيئة العامة للسياحة والآثار. وهذا التوجيه هو تأكيد لأمر سام صادر عام 1429هـ تم بموجبه إلزام الجهات الحكومية بتطبيق الأحكام الواردة في نظام الآثار والمحافظة على مواقع التاريخ الإسلامي بما يجنبها الإزالة والاندثار، كما أكد توجيه سمو ولي العهد على ما جاء في نظام الآثار والمتاحف والتراث الوطني الصادر في شهر شعبان في العام الماضي 1435هـ.
نتمنى أن يكون في هذا التوجيه ما يحفظ تراثنا الوطني من الضياع، فليس لأي جهة حكومية بعد الآن أي عذر في التفريط بهذا التراث وتعريضه للضياع ويجب أن يكون هذا التوجيه بمثابة قفل لباب الاجتهادات الشخصية التي تستخف بالآثار.. فالهيئة العامة للسياحة والآثار هي المرجعية النظامية ويجب أن يتعامل الجميع معها في كل صغيرة وكبيرة عندما يتعلق الأمر بالآثار والمباني التراثية.