خدمتني الظروف فعرفتُ عدداً كبيراً من الأحسائيين الذين توطدت علاقتي بهم حتى أوشكت أن تتجاوز العلاقة التي تربط الأصدقاء والزملاء وتتحول إلى ما يشبه العلاقة بين الإخوان الذين تجمعهم رابطة الدم والرحم. عرفتهم في البداية وتزاملت معهم في ديار الغربة عندما كنت طالباً أتلقى العلم خارج الوطن ثم عندما تخرجت وعدت للعمل في مواقع مختلفة.
أقول، ودون مبالغة وبصرف النظر عن الأحداث المؤلمة التي وقعت في الأحساء مؤخراً، أن هؤلاء الأصدقاء والزملاء والمعارف هم مِنْ ألطف مَنْ عرفت من الناس ومن أكثرهم كرماً ودفئاً في التعامل الإنساني والخلق الراقي والوفاء وحفظ الجميل.
في كل أوساط الناس قد تجد من يشذ عن القاعدة، لكنني أتحدث هنا بشكل عام ومن تجربة شخصية وعلى مدى سنوات طويلة من التعامل مع الأحسائيين في المستويات الرسمية والخاصة وفي مختلف الظروف ومن أهل السنة والشيعة على حدٍ سواء.
تعاملت مع أشخاص من عامة الناس، وتعاملت مع مثقفين وصحفيين وأساتذة جامعة وطلاب ورجال أعمال ومن كل المشارب والمهن، ولو حاولت أن أضع قائمة بمن أعرفهم من أهل الأحساء ممن اعتبرهم أعزاء على نفسي لطالت القائمة وربما ستغيب أسماء اشخاص كثيرين لأنهم أكثر من أن تسعفني الذاكرة بأسمائهم أثناء كتابة هذا المقال السريع.
وعلى مدى تلك السنوات الطويلة لا أذكر أن مسألة الانتماء المذهبي، سواء بين أهل السنة أو الشيعة، كانت محل اهتمام أو نقاش بين أهل الأحساء حين نلتقي في جلسات خاصة أو في أماكن العمل وإنما كانت بكل أسف تُثار أحياناً من بعض الأشخاص الذين هم من خارج المنطقة ممن لا يعرفون أن الوشائج بين الإحسائيين تتجاوز الانتماء المذهبي وأنها تضرب بجذورها في أعماق التاريخ إلى مئات السنين من العلاقات الأخوية الصافية في مجتمع منصرف إلى العمل والإنتاج والثقافة والتنوع والتسامح.
واليوم حين يتعرض مواطنون من قرية الدالوة في الأحساء إلى اعتداء غاشم من أشخاص لا يفقهون شيئاً عن قيم المجتمع الأحسائي المتكاتف ممن تراكم الجهلُ في عقولهم والأحقاد في صدورهم فإنه لا يكفي أن نذرف الدموع وإنما أيضا لابد أن نتساءل عن الأسباب والظروف التي هيَّأت لوقوع تلك الجريمة. لقد كان موقف هيئة كبار العلماء رائعاً، وكان موقف المواطنين على امتداد مناطق المملكة أكثر من رائع، وكذلك الموقف الرسمي للحكومة وللجهات الأمنية التي قبضت على الجناة وعلى المتآمرين في وقت قياسي. لكن المطلوب بعد أن تجف الدموع أن نتصارح مع أنفسنا وأن نجيب على الأسئلة الصعبة بكل أمانة وصدق وإلا فإن البديل سيكون كارثياً على الجميع، وهذا ما لن تسمح به الحكومة ولا المواطنون في بلدنا الذي ندعو الله أن يبقيه آمنا وسط هذه المحيطات الهائجة من الفتن من حولنا في كل مكان.