القراءة وصداقة الكتاب ممارسة حياتية وعادة مترسخة لدى المجتمعات الغربية وتلك الشرقية المتقدمة كاليابان وكوريا على سبيل المثال. وفي احصائية حديثة أن الطفل الأمريكي يقرأ ما يعادل قراءة مئتي طفل عربي، وأن فرنسا تصدر دور النشر فيها سبعين ألف كتاب في العام ويقرأ فرنسي من اثني عشرة إلى خمس عشرة كتابا في العام.
في بلاد فولتير لم يمر تصريح وزيرة الثقافة الفرنسية من أصل كوري فلور بيرلان والتي هي أول وزيرة من أصل آسيوي في فرنسا عن أنها لم تقرأ كتابا منذ عامين، لم يمر هذا التصريح دون ضجة لدى قطاع عريض من الشعب الفرنسي، إذ كيف تترأس وزيرة الشأن الثقافي وهي بعيدة طوال عامين عن القراءة؟
لعل ما يحسب لهذه الوزيرة صدقها ومصارحتها لمذيعة سألتها عما إذا قرأت للفائز بجائزة نوبل لهذا العام الكاتب الفرنسي أيضا باتريك موديانو والتي تناولت معه غداء بعد فوزه بالجائزة، ورغم تحرجها الذي بدأ عليها من وقع السؤال إلا أنها أجابت بصدق أن انهماكها في العمل الروتيني بالوزارة لم يمنحها الوقت للقراءة الحرة والاطلاع، لكن بلدا تبلغ مبيعات الكتب فيه سبعمائة ألف كتاب سنويا لا يستغرب منه إذا انتقد هذه الوزيرة حتى لو كانت أمينة في إجابتها.
وبما أن الأمور غالبا تذكر بضدها، يحضرني حادث حريق مسرح في احدى الدول العربية الذي تنكر وزير الثقافة لمسئوليته عما حدث للمسرح ورفض الاستقالة، فانظر البون الشاسع بين البيئتين، ولم أذكر اسم الدولة لأنني لست بصدد الفضح أو مجرد النقد للنقد، وإنما العبرة في أن تقدم المجتمعات والدول إنما هو دائرة مكتملة تشكلها قطاعات هي مؤسسات هذه الدولة أو تلك، ومرافقها وقطاعاتها المدنية والاجتماعية على اختلافها وتنوعها.
وعلى ذكر هذه الوزيرة، حين نعلم بأنها طفلة كورية وجدت في أحد شوارع سيئول وهي رضيعة تخلى عنها أبواها ثم تبنتها أسرة فرنسية اعطتها هذا الاسم فلور بيرلان، فنشأت في أحضان أسرتها الفرنسية وتعلمت حتى تخرجت من معهد الدراسات الدبلوماسية والمعهد الوطني للإدارة وهما صرحان يخرجان النخبة الأكاديمية، ثم تدرجت في العمل الحكومي حتى وصلت إلى وزارة الثقافة. فانظر إلى قدر الله لطفلة رماها ذووها في شارع في سيئول لتصل إلى بلد أوروبي يمنح الفرص لمن يحسن استغلالها دون النظر إلى عرق أو ثقافة أو دين.
ومعلوم أن المسلمين قد بدءوا بتسنم وزارات ومناصب حزبية وسياسية في فرنسا وأوروبا وأمريكا اللاتينية -وهي الأقدم حقيقة في منح الفرص للمهاجرين العرب خصوصا- فليت العرب والمسلمين المهاجرين يحسنون استغلال هذه الفرص فيقدمون ما قدمه أسلافهم في الأندلس حين بهروا أوروبا إلى درجة أن الإسبان في تلك الحقبة يقلدون العرب في لغتهم، كما بفعل كثير من العرب اليوم حين يدخلون كلمات إنجليزية في حديثهم، ويقلدون العرب حتى في لباسهم وأساليب عيشهم. يومها كانت طرقات غرناطة وأشبيلية تضاء بالمصابيح ليلا بينما لندن وباريس غارقة في الظلام، ليس هذا بكاء على الأطلال ولا (ماضوية)، بقدر ما هو استرجاع لتاريخ بغرض العبرة والتذكير بأننا لدينا الإمكانات للنهوض من جديد طالما كنا في الطليعة في تلك الفترة حضارة وفكراً وخلقاً، دامت لكم متعة المعرفة وصداقة الكتاب.