أعظم المعاني

تظل قصة الذبيح إسماعيل مع أبيه وأبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام معيناً فراتاً لكل مستبصر ومحب للحكمة، ذلك أنها تحوز أعظم ما يمكن أن تتعرض له النفس البشرية من امتحان تجلو ناره ما يخالطها من نقائص ورزايا كما تجلو النار الذهب من شوائب المعادن.

كيف يمكن لأكبر علماء النفس وصف مشاعر الخليل عليه السلام وهو يقود ابنه إسماعيل بعد أن امتثلا لمشيئة الرحمن بإيمان كالجبل رسوخاً وصلابة، وكيف أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كب ابنه على وجهه حتى لا تلتقي عيناه بعيني ابنه إسماعيل فيكون ذلك مدعاة للضعف بفعل عاطفة الأبوة ويتراجع عن هذه التضحية، حسب مفسرين ومؤرخين كبار.

كما تدل بعض التفاصيل في هذه القصة الحق وغيرها من قصص الأنبياء والرسل عليهم السلام أنهم بشر في النهاية ويعتريهم ما يعتري باقي البشر، وإلا فكيف للناس أن يتبعوهم ويقتدوا بأخلاقهم لو كانوا فوق مرتبة البشر، تأمل قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الآية.

فيها من التلهف من خليل الرحمن للاطلاع عن قرب على قدرة الله تعالى على الإحياء، كما فيها بيان للمكانة التي يحظى بها إبراهيم لدى خالقه ولذلك سُمي خليل الله، إلى جانب أن هذا الطلب كما قلت يبيّن الطبيعة البشرية للأنبياء كما لبني آدم جميعاً.

إن البحث والتأمل في الحكمة والدلالات وخلفيات الأحكام الشرعية عموماً والحج خصوصاً تمنح المسلم لذة في العبادة واستشعاراً لعظمة الإسلام، بل النواحي الجمالية في شعائره.

حين أعود إلى سنوات التعليم العام وفي المواد الشرعية عموماً أعجب من إهمال مؤلفي الكتب الدراسية الدينية لهذه النواحي على أهميتها، وتركيزهم على الأحكام وطرق التعبد فقط، ولئن كان هذا أساساً لتأدية الشعائر كما يجب، لكنها تصبح أعمق في النفس والوجدان وأعظم تأثيراً عند بيان خلفياتها وأسباب تشريعها ومعانيها خصوصاً لتلاميذ التعليم العام، بل حتى الكبار في التعليم الجامعي والعالي والذي وللأسف لا يتم فيه إعطاء هذه المسألة حقها من البيان والتأمل.

صحيح أن المسلم مأمور بالسمع والطاعة ابتداءً حتى ولو لم يعرف الحكمة من تشريع ما {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }، إلا أن معرفة الحكمة منها يزيد من ثبات الإيمان في النفس ومن لذة أدائها واستشعار عظمتها.

يقول ابن كثير وغيره من المفسرين أن خليل الله وضع السكين على رقبة إسماعيل عليهم السلام جميعا إلا أن النداء الرهيب من السماء أن الفداء قد نزل لإسماعيل، جزاء تصديق الرؤيا والعزم الراسخ رسوخ الجبال والامتثال لمشيئة ملك الملوك، جاء هذا النداء في لحظة رهيبة لعلها ثانية في توقيتنا الإنساني لوقف أعظم تضحية بشرية يقدم عليها أب في ولده.

كبش يصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأن صوفه أحمر وكان يرعى في الجنة أنزل لأبي الأنبياء كي يذبحه بدل ابنه النبي الكريم إسماعيل الذي انصاع لأمر الله تعالى {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.

فكم لنا من الفخر بإحياء هذه الحادثة التي اهتز لها الكون تسبيحاً لخالقه، واتباعاً لإبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، كما نحيي سعي هاجر بين جبلي الصفا والمروة بحثاً عمّن يدرك صغيرها من الموت عطشاً، بسعينا بينهما كركن من أركان الحج والعمرة إنما أيضاً بخلفية ضاربة في أعماق التاريخ وفي دلالة على أن في شعائر الحج والإسلام عموماً معاني غاية في الجمال والعظمة والتأثير النفسي والأخلاقي.

لقد لاحظ المستشرق الهولندي سنودن والذي جاء إلى مكة في موسم الحج أواخر القرن التاسع عشر أن الحجاج الإندونيسيين يزيد لديهم الشعور بالوطنية والحمية للنضال ضد مستعمريهم الهولنديين بعد العودة من مكة وأداء فريضة الحج، لذا فقد قدم هذا المستشرق تقريره إلى الحكومة الهولندية ناصحاً إياها بالحد من نشاط العلماء المسلمين في إندونيسيا والحرص على انتشار المفاهيم والممارسات الوثنية بين الإندونيسيين حتى لا يفكروا بمقاومة الاستعمار الهولندي.

في هذا الموسم العظيم ندعو الله أن يكشف هذه الغمة ويعيد كثيراً من المسلمين إلى جادة الصواب ويمحق كيد أعدائهم ويتقبل منا جميعاً عباداتنا وكل عام وأنتم ترفلون بأثواب العافية.