نتساهل فـي موضوع الفتوى، وهو تساهل في غير محله. قد يرى البعض بساطة الإفتاء في الأمور الثانوية أو المعروفة والمتداولة. هذا صحيح لأن بعض المسائل لا تحتاج لتدقيق وتمحيص، لكن هذا التساهل أدى إلى دخول كثيرين لهذا الميدان لدرجة أنهم شرعوا يفتون في كل شيء رغم قلة خبرة بعضهم وتدني مستوى فهمهم في أمور الحياة. التساهل جعل مجال الفتوى كلاً مشاعاً أمام الجميع رغم صدور أمر ملكي كريم قبل سنوات بقصر الفتوى على هيئة كبار العلماء فقط بهدف الحد من فوضى الفتوى وعدم التشويش على الناس.
ولأن هذا الأمر لم يفعل ليحقق الهدف منه بصورة صحيحة صار الكل يفتي وهو ما أحدث بلبلة بين الناس وظهور ضلالات منحرفة عن المنهج القويم. بتنا نسمع مثلاً أن أحد الشيوخ قد أفتى بتحريم السفر لإحدى الدول الخليجية وفق فهمه لا فهم الدين الواسع والشامل. عندما نراجع في سير علماء هذه البلاد وشيوخها المعروفين لا نجد اسم هذا الشيخ من بين تلك الأسماء المعتبرة، وهكذا دخل لهذا المجال الذي ترك مشاعاً دون رقابة أو محاسبة أو حتى مساءلة كل باحث عن الظهور والشهرة وجمع الأتباع والمريدين.
خطورة التساهل وعدم تطبيق الأمر الملكي بخصوص قصر الفتوى على كبار العلماء في أنه أفرز فتاوى تحرّض على الكراهية وتدعو للتشدد والغلو والتطرف دون مراعاة لمقتضيات العصر الحالي ومستجداته. الأمر الآخر أن تلك النوعية من شيوخ الإنترنت والتي انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي قد أدت إلى جر بعض الشباب للخروج إلى جبهات قتال مشبوهة وللانضمام لجماعات إرهابية مجرمة بدعاوى الجهاد في سبيل الله دون أن يكون لدى أولئك الشباب المغرر بهم أي وعي بمآلات ما توجهوا إليه أو طبيعة هذه الحروب وأهداف أطرافها.
مجلس الشورى ناقش مشكوراً هذا الموضوع الهام وطالب بتطبيق الأمر الملكي الذي أشرت إليه لوقف الفوضى المؤدية للشر والمكرسة للتشدد والمحرضة على الكراهية، وفي إشارة ضمن النقاش عبارة عن مطالبة بأن تلامس الفتاوى الجوانب الصحية والاقتصادية، وهي دعوة لشمولية الفتاوى لكل جوانب الحياة دون استثناء وهو الأمر الذي يندب إلى التعمق في متغيرات العصر الحالي وتطبيق ما يُسمى بفقه الواقع، وهذا الفقه يستدعي فهماً شاملاً ومتعمّقاً لجميع متغيرات العصر وخلفية علمية وبحثية عريضة، وهو ما لا يتوافر عند أي أحد إلا لدى «الراسخين في العلم».
في جانب آخر استنكرت هيئة كبار العلماء ضمن توصيات دورتها الثمانين ما يصدر من فتاوى أو آراء تسوغ جرائم الإرهاب أو تشجع عليه، ولكونه من أخطر الأمور وأشنعها فلا يجوز بحال من الأحوال تسويغ جرائم الإرهاب تحت أي ذريعة. بقي سؤال مهم طرحه عضو شوري عن ما فعلته الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء لصد تلك الفتاوى، ولماذا لم تقف بحزم وقوة أمام مصدري الفتاوى في مواقع التواصل مع الرفع للجهة العليا بالجهات التي لا تتجاوب مع أمر قصر الفتوى على الهيئة؟
ضبط الفتوى وتقنينها وقصرها فقط على هيئة كبار العلماء من المرتكزات الرئيسة للقضاء على التشدد ونشر الفكر الوسطي وتجفيف منابع الإرهاب، فالفوضى تتيح المجال لشيوخ التشدد لنشر فتاواهم الضالة المضللة.