كان مما ذكرته في الحلقة الأولى من هذه المقالة أنه ربما كان من نتائج صمود غَزَّة وأهلها أمام العدوان الصهيوني الأخير على القطاع تكوين قيادة فلسطينية مخلصة واعية. ولقد تناقلت وسائل الإعلام المختلفة تعانق قادة أولئك الصامدين وقادة فتح وتصريحات المتعانقين بأنَّ المشكلات بين الطرفين قد سُوِّيت. وكنتُ من المتفائلين. لكن مجريات الأمور في الأيام الأخيرة أوضحتْ أني كنت متفائلاً أكثر من اللازم. فقد عاد التلاسن المقيت بين الطرفين على أشدُّه. وكنت أودُّ وآمل أن تأتي قيادة فلسطينية جديدة مُكوَّنة من شخصيات أمثال الدكتور عبد الشافي، رحمه الله، والدكتورة حنان عشراوي والدكتور مصطفى البرغوثي.
وفي عام 1962م حدث مؤتمرٌ في بغداد قيل فيه إنَّ الخلافات بين العراق، التي كانت حينذاك في عهد عبد الكريم قاسم، والقوميين من قادة العرب الآخرين. فكتبت قصيدة من أبياتها:
قالوا : الخلافات القديمة سُوِّيت
وتَبدَّدت ظُلَمٌ و حُلَّ المشكلُ
ومضت دعايات الوفود قوية
لمظاهر اللُّقيات تَبثُّ و تَنقلُ
أَتوهَّموا أنَّ الحقيقة تنطلي
و مكامنَ الزيف المُقنَّعِ تُجهَلُ؟
حَذقَتْ أساليب السياسة أُمَّتي
و انحلَّ للشعب الخَفيُّ المُقفلُ
وبعد مرور كل السنوات التي مَرَّت بعد كتابة تلك القصيدة أرى موضوعها يَتكرَّر في كثير من جوانبه.
ومما ذكرته في الحلقة الأولى من هذه المقالة، أيضاً، الإشارة إلى الثورة الجزائرية المجيدة التي انطلقت عام 1954م، وقلت : إنَّ وطننا العزيز؛ قيادةً وشعباً، وقف معها؛ سياسيّاً وماليّاً وتسليحيّاً. فلم يَمرَّ شهر واحد على انطلاق تلك الثورة إلا وقد نجحت قيادة وطننا في إدراج القَضيَّة الجزائرية ضمن القضايا التي يجب أن تكون موضع العناية والاهتمام في مجلس الأمن. وظَلَّ القادة الجزائريون مُزوَّدين بجوازات سفر سعودية حتى استقلت الجزائر من نير الاستعمار الفرنسي.
وكنت قد كتبت عن تلك الثورة قصائد عديدة من أوائلها قصيدة كتبتها عام 1956م بعنوان: «هَبَّت طلائعنا». ومنها:
هَبَّت طلائعنا كالأُسْدِ غاضبةً
في عَدْوها غمغمات الموت تَضطربُ
تواثبت من ذُرا أوراس هائجةً
في وجهها جحفل الطاغين ينتحبُ
أفواج شُوْسٍ من الثُّوار يربطهم
بالمَكْرُمات جلال الفعل والنَّسَبُ
حُرِّية الشعب ما أبقت نضارتها
إلا الدماء التي من أجلها سكبوا
وبعد مرور أربعين عاماً على استقلال الجزائر تلقيت دعوة كريمة من وزارة المجاهدين الجزائرية للمشاركة في مهرجان بعنوان: « أنشودة المجد «. فذهبت إلى الجزائر، وألقيت قصيدة عنوانها: « أنشودة المجد». ومن أبيات تلك القصيدة:
في مُقلتَيَّ إلى مرأى حِماكَ ظما
يا موطناً في ذرا الأمجاد عَزَّ حِمَى
وفي فؤاديَ شوقٌ لم يَحلَّ به
ركبُ الجديدين إلا زاده ضَرَما
وذو الغَرامِ وإن ألوى المشيبُ به
يَعبُّ كأسَ تباريح الهوى نهما
وإن تَخنْه قوى التعبير عن وَلَهٍ
بدا بعينيه ما في القلب وارتسما
وأبلغُ القول إعراباً وأصدقُه
إذا التقى الصبُّ من يهواه بوحُهما
***
أنشودةَ المجد .. يا ثغراً تَعشَّقه
منِّي الجَنَان بديعَ السحر مبتسما
أتيتُ أحملُ صفوَ الحب من وطنٍ
يَضمُ طيبةَ في بُرْديه والحَرَما
آيُ الهدايةِ في رَبْعيهما نزلت
نوراً به ماد ركنُ الجهل وانهدما
وبين أحضانِه نجدٌ نسيمَ صبا
مُعطَّراً بعَرارٍ في التلالِ نَما
وجئتُ نَهرَ ودادٍ جاد منبعَه
غَيثٌ من الأمنيات الممرعاتِ همى
أنشودةَ المجد .. يا أسطورةً دفعتْ
مَهْرَ التحرُّر من جور الطغاة دما
وثورةً ما انثنى أبطالُها خَوَراً
عن الوغى أو تفادوا خوضها سأما
مضت شهيداً يغذِّيها فيخلفُه
مَن برَّ بالوعد إقداماً ومقتحما
حتى علتْ في صباح النصر ألويةٌ
جذلى تقبِّل أرضاً حرَّة وسما
حَقَّق الله لأُمَّتنا كل ما يرجوه المخلصون لها من تَقدُّم ونجاح.