في عام 1954م انطلقت الثورة الجزائرية المجيدة ضدَّ المستعمر الفرنسي، وكان في طليعة من وقف مع تلك الثورة؛ سياسيَّاً وماليَّاً وتسليحيّاً، وطننا العزيز؛ قيادةً وشعباً، فلمْ يمرَّ شهرٌ واحد على انطلاق تلك الثورة إلاَّ وقد نجحت قيادة وطننا في إدراج القضيَّة الجزائريّة ضمن القضايا التي يجب أن تكون موضع العناية والاهتمام.
ومن الواضح أنَّ من إيحاءات انطلاق الثورة الجزائرية انطلاق الفدائيِّين الفلسطينيين من غزَّة عام 1955م، وكان أحمد الشقيري -رحمه الله- من القادة الذين كانت لهم أدوارٌ مُهمةٌ جداً في تلك الانطلاقة الفدائيِّة.
ومن الواضح، أيضاً أنَّ ذلك العمل الفدائيَّ المنطلق من غزَّة، التي كانت تحت الإدارة المصرية، كان من أسباب إقدام الكيان الصهيوني على التآمر مع بريطانيا وفرنسا، ثمَّ القيام بالعدوان الثلاثي: الصهيوني.. البريطاني.. الفرنسي. عام 1956م، فصمود غزَّة وأهلها أمام العدوان الصهيوني الوحشي الأخير صمودٌ ليس غريباً. ولقد اتَّضح نجاح ذلك الصمود الغَزَّي الباسل بأدلّة عدَّة، منها ما بدا من تعاطف أبداه مسؤولون من دول الغرب؛ ناهيك عن شعوبها، تجاه القضيَّة الفلسطينية، ومنها ما تكبَّدته حركة الطيران المدني الصهيوني بالذات من خسائر مادِّية خلال الأيام التي استمرَّ فيها ذلك العدوان.
على أنَّ منْ في قلوبهم مرضٌ من المنتسبين إلى أمَّتنا راحوا يروِّجون تعليقاتهم السخيفة المشكِّكَة في انتصار صمود غزَّة وأهلها. ومن ذلك ترويجهم القول: إنَّ الذين قُتلوا من الفلسطينيين أضعاف الذين قُتِلوا من الصهاينة المعتدين. وكلُّ قارئ للتاريخ يعلم أنَّ تحرير البلدان يتطلَّبُ تضحيات كبيرة، فلمْ تُحرَّر الجزائر -مثلاً- إلاَّ بعد أنْ ضحَّت بأكثر من مليون شهيد.
وفي عام 1965م أُنشئتْ حركة فتح، وسُمِّي جناحها العسكري العاصفة، وكان من الداعمين لها، عند إنشائها، قيادة وطننا العزيز. وقد كَتبتُ، عام 1968م، عن الحل المطروح للقضية الفلسطينية وحركة فتح قصيدةً، هذا نَصّها:
حلٌّ تُصاغُ بنوده بدمِ
يجلو الأسى وغياهب الظُلَمِ
لا حلَّ ألفاظٌ منمَّقةٌ
خَطَّتْ وصاغتْ ريشة القلم
كلُّ القراراتِ التي صدرتْ
وتعاقبتْ من هيئةِ الأُمم
بقيتْ كما كانتْ بلا أثرٍ
لا خفَّفتْ بؤسي ولا ألمي
مفعولها حِبرٌ على ورَقٍ
ووجودها ما زالَ كالعدم
لم يَبْقَ لي حُلمٌ بقدرتها
عشرون عاماً بدَّدتْ حُلُمي
الحلُّ عندَ الفتحِ عاصفةٌ
تزدادُ عنفاً كلَّ ملتحم
شهمٌ فدائيٌّ وثائرةٌ
وهجومُ مِقدامٍ وضَرْبُ كِمي
وكتيبةٌ تمضي فتخلفها
أُخرى تحيط الأُفْقَ بالضرم
وفيالقٌ في الدربِ زاحفةٌ
لتدكَّ صرحَ عَدوَّة الأُمم
على أنَّ حركة فتح لم تعد كما كانت عند إنشائها، فقد ارتكبتْ أخطاء فادحة أولاً مع المملكة الأردنية، التي كانت من الحاضنين لها، ثم ارتكبت الخطأ الفادح الأكبر بعملها اتفاقية أوسلو، التي تضمَّنت بعضُ بنودها وجوبَ وقوف الفلسطينيين مع الصهاينة ضدَّ أيَّ حركة مقاومة فلسطينية، وكما قال المسؤولون الصهاينة عن اتفاقية كامب ديفيد، التي وقَّعها معهم أنور السادات: إنَّ أهميَّتها بالنسبة لهم لا تَقلُّ عن أهميَّة قيام دولتهم عام 1948م. وقالوا عن اتفاقية أوسلو التي وقَّعها معهم ياسر عرفات: إنَّها انتصارٌ عظيمٌ لهم.
ومن شاهد كيف جرت المفاوضات حتى وقِّعت تلك الاتفاقية ييأس من وجود الإخلاص لدى الفلسطينيين الذين اشتركوا في التوقيع عليها.
وربما كان من نتائج صمود غزة وأهلها تكوين قيادة فلسطينية واعية. والمسلم مأمور بالتفاؤل.