أصبحت الدول العربيَّة أمام أكبر تحدٍ تاريخي في وحدتها الثقافية والجغرافية، فقد حاول العرب خلال السنوات الماضية أن لا يواجهوا حقيقة وجود خطر التقسيم إلى دويلات اثنية وطائفية أقل مساحة مما أقرته اتفاقية سايكس بيكو في بداية القرن الماضي، والتعامل معها على أنها مؤامرة من نسج الخيال، لكن يبدو أن المخطط بدأت خطوات تنفيذه تظهر في الشام والعراق، والمستقبل حافل بمزيد من المخاطر.
قد كان المخطط المذكور يهدف إلى تكوين كيانات متناهية في الصغر، وتقوم على تقسيم العرب إلى طوائف دينية متصارعة، وإعطاء الأقليات الاثنية استقلالها، كما حدث في جنوب السودان، وكما يحدث الآن في إقليم كردستان، وبالتالي تكون الزعامة في المنطقة للدولة العنصرية الأكبر، وهي إسرائيل، وكما قال شمعون بيريز: لقد جرب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجربوا قيادة إسرائيل إذن.
يرى أحد أهم المُنظِّرين لفكرة التقسيم رالف بيترز أن ثمة كراهية شديدة بين الجماعات الدينيَّة والاثنية بالمنطقة تجاه بعضها بعضاً، وأنه لذلك يجب أن يُعاد تقسيم الشرق الأوسط انطلاقًا من تركيبته السكانية غير المتجانسة القائمة على الأديان والمذاهب والقوميات والأقليات، حتَّى يعود السلام إليه، وما يحدث في سوريا والعراق يدل أن ثمة تمويلاً لكل أطراف الصراع، وذلك من أجل الوصول إلى نقطة اللا رجوع، ثمَّ قبول فكرة تقسيم الدول إلى دويلات طائفية.
يحدث هذا في إعادة لسيناريو دول الطوائف في الأندلس، التي انقسمت إلى 22 دولة بعد جولات من الصراع الاثني، قبل أن تختفي من الوجود أهم حقبة حضارية في تاريخ المسلمين، وقد كانت العلَّة الأهم في ذلك السقوط التاريخي ضيق أفق العقل السياسي العربي وإصراره على أن الدولة غنيمة حرب، وقد كان وما زال يتصف برؤية ضيقة للمصالح الكبرى للأوطان.
وقد ظهر ذلك جليًّا في العقود الثلاثة الماضية، التي حفلت باضطرابات سياسيَّة، بدءًا من الحرب العراقية الإيرانية، ثمَّ احتلال الكويت، وبعد ذلك احتلال بغداد، الذي فتح الباب لإعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة، حدودها التعصب الديني والطائفي، كذلك فشل المشروعات العربيَّة في القرن الماضي في إحلال الدَّولة الحديثة التي تؤمن بالتعددية والمجتمع المدني والمواطنة غير المبنية على العرقية أو الطائفية.
تقوم إيران بدور تاريخي في مشروع التقسيم ويساعدها في ذلك العلاقات الإستراتيجية والمصالح الجديدة بينها وبين الغرب، وتكمن قوة إيران الحالية في تعزيز الأمن داخل إيران، ثمَّ اللعب على أوتار الطائفية في الدول العربيَّة المجاورة، كما ساهم التطرف السني والممثل في تيار القاعدة في التمهيد لحدوث المخطط الجديد للشرق الأوسط، وربما ندرك في المستقبل القريب سر قوة اندفاع داعش ومصادر تمويلها في شمال العراق.
في ظلِّ هذه المخاطر، تختفي الإرادة العربيَّة في الأزمات، التي كانت منذ سايكس بيكو غائبة عن الدفاع عن مصالحها الوطنيَّة أمام التهديد الخارجي، بينما واجهت الإرادة التركية والفارسية تحدِّيات التقسيم برغم من التنوع الطائفي والاثني الذي تتصف به تلك المجتمعات، ويحتاج ذلك إلى وقفة، لأن الأمر له علاقة بتطوّر العقل السياسي عند القوميتين الجارتين، الذي تميز بقدرته في الوقوف ضد التدخل الخارجي في داخل أراضيهم، والمحافظة على الاستقرار الداخلي، بينما خسر العرب كثيراً من تحدِّياتهم الداخليَّة والخارجيَّة بسبب ممانعة العرب لمفهوم الدولة الحديثة، والاستعانة بالخارج ضد الداخل.
مفهوم الدَّولة الحديثة يقتضي الخروج من فكرة أن الوطن غنيمة حرب، ثم الاستغناء عن أساليب السيطرة من خلال الفكرة القومية أو الطائفية، وذلك لاستعادة روح المواطنة وإقرار المساواة بين مواطنيها، مهما اختلفت اثنياتهم وطوائفهم، ثمَّ العمل على تأمين الحدود ضد التقسيم، والعمل على مقاومة مؤامرة التقسيم الغربية بالإصلاح الداخلي بالأساليب المدنية، وتأتي هذه المطالبة كحل لوقف التمزق في الدول العربيَّة، الذي لن يتوقف إلا إذا كان القرار العربي مستقلاً، لا يخضع للإرادة الخارجيَّة سواء من إيران أو تركيا أو الولايات المتحدة الأمريكية، ويحافظ على وحدته من خلال الحلول الحضارية الحديثة.