بعد فشل الربيع العربي في إدخال العرب إلى طور الدولة الحديثة، عاد منهج ابن خلدون في الدورة العصبية إلى الواجهة، والذي ينص أن الدول تقوم على العصبية والعصبة الدينية، وأن عمر الدول قرن ونيف، وقد كان ابن خلدون أول من حاول أن يضع أطوارا للدولة في تاريخ الأمم، وذلك عندما كتب أن الدول قد تموت، وتبدأ دولة أخرى على أرضية التوحش ومبادئ النصرة والعصبية، وهكذا..
لذلك، لا يمكن فهم ما يحدث في العراق والشام من انتشار لفكر القاعدة بدون الرجوع مرة أخرى للتاريخ، ولا يمكن إدراك سر التنظيم الذي يعملون من خلاله بدون قراءة كتاب إدارة التوحش للمؤلف أبو بكر ناجي، والمرتبط أيدولوجياً بالقاعدة، والتوحش كلمة استعارها المؤلف القاعدي من مقدمة ابن خلدون، ويقصد بها تلك الحالة من الفوضى التي تدب في أطراف الدول، والتوحش أيضاً قد يكون نتيجة للفساد الإداري ولإهمال الشعوب وإنكار حاجاتهم الأساسية.
كان اهتمام الاستخبارات الغربية بهذا الكتاب ملفتا للنظر، وكأنهم وجدوا العلة خلف انتشار الفكر المتطرف، بينما لم يكن الأمر أكثر من استدعاء للماضي في نظرياته وتراثه وأطواره، ومحاكاة لنظرية ابن خلدون في قراءته للتاريخ العربي، والذي اتسم بدورات عصبية أرضيتها التوحش، ووسطها الإعمار، ونهايتها الفوضى، ويبدو أن توحش السكان في التاريخ العربي سبب رئيسي في انطلاق الثورات الدينية.
يعتقد منظر القاعدة أن الأراضي التي تدب فيها الفوضى كما يحدث في سوريا والعراق، تكون «متوحشة» حسب نظرية ابن خلدون، ويعاني من آثارها السكان المحليون، لذلك يخطط منظرو القاعدة أن تحل قواتهم تدريجياً محل السلطات الحاكمة تمهيدا لإقامة الدولة الإسلامية الجديدة، وأن تحسن «إدارة التوحش» إلى أن تستقر الأمور، وما يحدث في شمال العراق، وبعض أجزاء سوريا من توحش وفوضي أغرى القاعدة لإعلان دولتهم العصبية بعد فشل الحل المدني في تلك الدولتين، وإصرار زعمائها على الحل الطائفي العصبي.
لعل السبب في العودة إلى تقاليد الماضي في إقامة الدول كان بسبب الممانعة السياسية في تلك الدول خلال العقود الماضية في الدخول في العصر الحديث، وبسبب أيضاً التأخير في إقامة حكم المؤسسات والعدالة الاجتماعية وآليات المجتمع المدني والحرية والتنمية المستديمة، مما هيأ المجتمع في تلك المناطق ليكون بمثابة البيئة الحاضنة في الأطراف المهملة لاستيطان التطرف، وقد تدخل المنطقة بسبب ذلك في عاصفة من الحروب إذا استمر سقوط المناطق في أيدي المتطرفين.
الجدير بالذكر أن نظرية ابن خلدون العصبية ودور التوحش في استمرارها لم تعد لها تطبيقات في العصر الحديث في الغرب، فقد تجاوزت أعمار الدول فيها القرون العديدة، لكن يبدو أنها تعود من جديد في الشرق العربي، ومن خلال نفس المفردات، الدولة الإسلامية، والخلافة، ومحاربة الكفار، والنصرة، ولكن بوجه طائفي بغيض، وكأن هذا الجزء من العالم لا يريد أن يتعلم من جامعة التاريخ أسباب طول العمر في حياة الدول، ويصر على عودة ابن خلدون وعصبيته إلى الأرض العربية.
ختاماً.. قد تنجح الجيوش في العراق وسوريا في دحر جحافل المتطرفين، وقد لا تنجح، وقد تطول القلاقل والفتن، لكن سيكون التقدم إلى الأمام في التحديث والاختلاف والتعددية وعدم الانفراد بالحكم في العراق وسوريا وغيرهما، هو طريق النصر الأسرع ضد التطرف، وأعني بذلك دخول أطوار الدولة الحديثة، وتحقيق التنمية الاقتصادية، ورفع دخل الفرد، وتجفيف مناطق التوحش في الأطراف، والله المستعان.