لم يعد الأمر يحتاج أكثر من هذا الإفصاح، وهل يحتاج النهار بعد ذلك إلى دليل، فقد أثبتت الأحداث في العراق أنه لا يمكن أن يكون الوطن للجميع، إذا تحدث رجل الدين في السياسة، أو إذا اعتقد الفقيه أنه الموقع نيابة عن الله عز وجل في شؤون السياسة والاقتصاد والحق والباطل في الحياة العامة..
سيسقط عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء في المعركة المنتظرة، والتي يقدمها بعض رجال الدين الشيعة المتطرفين على أنها بين أنصار الحسن وأحفاد يزيد، ويوظفها بعض رجال الدين السنة المتطرفين، على أنها المعركة الفاصلة بين أحفاد الصحابة وأحفاد المجوس، أو بين الروافض والنواصب، كما يصف كل طرف الآخر، وهو ما يدل أن بعض رجال الدين من كلا الطرفين قد حادوا عن المبادئ الأساسية في القرآن، والتي تنص أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً.
تعد حالة العراق مثالا صارخا للدولة التي تعاني من اختطاف الهوية المدنية لتصبح دينية طائفية، فالعراقي حسب في ظل حكومة المالكي هو الشيعي الذين يمجد الحسين بن علي، بينما يدخل المخالفون في خانة أنصار يزيد بن معاوية، وبالتالي تحولت الهوية العراقية إلى هوية طائفية، مواصفاتها حب وكراهية، ووولاء وبغضاء..
تعمل السلطة على فرض خطابها الطائفي على مختلف النواحي السياسية والاجتماعية، يصاحب ذلك لغة سلطوية حادة وإقصائية، تؤدي في نهاية الأمر للانقسام والتنازع على الهوية الوطنية، كما يحدث الآن في العراق، ولا تكتفي بمحاولة اختطاف الوطن، ولكن تعمل على التخلص من المخالفين.
يظهر في الاتجاه المقابل تطرف ديني يقوده رجال دين سنة، يحرصون على تربية الأجيال على التوجس من الشيعي، وأن ولاءه لمرجعيات خارج البلاد، وأنه يتعمد بإلحاق الأذى بالسني مهما كلف الأمر، ويقوم هذا التيار على مبدأ غرز مشاعر عدم الثقة لأى شخص ينتمي للشيعة، وإن كان يحمل أعلى الشهادات أو يصرح بعلمانيته وليبراليته..
وهو ما يجعل الأمر معقداً بين أبناء الوطن الواحد، وغير قابل للإصلاح من قبل رجال الدين، ولا بديل عن إقرار علمانية الدولة في السياسة، وتجريم رجال الدين عند الحديث في السياسة، أو عند إثارة البغضاء والكراهية، أو الدعوة للتشكيك في نزاهة الآخر أو تخوينه، وقد يحتاج العراق إلى ثورة في الوعي الاجتماعي تنتهي بتحرير العقول من سلطة العقل الطائفي لرجال الدين.
لم تكن العلمانية في الغرب حراكا نخبويا، وقد كانت حركة اجتماعية تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدار الدنيا، بسبب سلطوية الخطاب الديني، و انقسامه، وإثارته للعدوانية والكراهية، وإصراره على احتكار المال والإقطاع، وفي نفس الوقت التحكم في عقول الناس، ومحاربة العلم والعقل والحد من الحريات والنظرة الدونية للعوام..
وهو ما أدى في النهاية إلى ثورات العوام من خلال فكر إلحادي كالماركسية في الثورة الشيوعية، وعلماني خالص كما حصل في ثورة فرنسا، وهو ما دفع النخب في المجتمعات الغربية إلى التخلص من السلطة الكنسية، الإبقاء على روح الدين، ثم تبني مناهج علمنة الدولة و الليبرالية والرأسمالية والديمقراطية كجبهات مضادة للطرح الشيوعي والإلحادي المتطرف والثائر ضد الدين.
قد لا يحدث شيء من ذلك في القريب العاجل في العراق، وقد تسيل الدماء في الشوارع لزمن طويل، قبل أن يصل العراقيون إلى مرحلة يعلنون فيها الخلاص من سلطة الاستيلاء الطائفي على العقول، ثم إعلان موقف موحد من هذا الإرث الدموي، ثم العمل على بناء مجتمع مدني لا ينقاد إلا لمصالحه الفردية والوطنية، لكنه يعبد ربه من خلال الإحسان ومراقبة الله عز وجل في السر والعلن، وابتغاء مرضاته بفعل الخيرات، وليس بالدعوة للبغضاء والكراهية..
سيظل السؤال قائماً، هل يستطيع العراقيون في القرن الواحد والعشرين أن يخرجوا بأقل خسائر بشرية من أعنف معركة تاريخية في الكراهية بين السنة والشيعة، وهل يوجد قادة يستطيعون إحداث النقلة الحضارية المنتظرة منذ قرون، نأمل ذلك وندعو الله أن يعجل بفرج العقول من سلطة رجال الدين.