تتردد هذه الأيام مقولة «الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا»، لكن آخرين يقولون: إن الفجوة بين سرعة زيادة الدخل للأغنياء وبطئه للفقراء، يعطي شعوراً بأن الأغنياء زادوا غنى والفقراء زادوا فقراً، فالمشكلة في التفاوت بالثروة أكبر منها في التفاوت بالدخل.
في كل الأحوال الجميع يتفق على أن الفجوة تتسع بين الأثرياء ومحدودي الدخل.. والجميع تقريباً يتفق على خطورة ذلك على الاستقرار داخل الدول وبينها... فما الذي يمكن أن يحدث؟ هل حركة تراكم رأس المال الخاص ستقود حتماً إلى تركيز الثروة في أيدي فئة ضئيلة كما توقع ماركس في القرن التاسع عشر ومن ثم تؤدي لثورات عارمة؟ أم أن قوى توازن النمو والتنافس والتطور التكنولوجي سيقود في مراحل متطورة من نمو رأس المال إلى خفض التفاوت وزيادة الاندماج بين الطبقات، كما توقع كوزنتس بالقرن العشرين. ماذا نعرف عن تطور الثروة والدخل منذ القرن الثامن عشر، وما هي الدروس التي نأخذها من تلك المعرفة لهذا القرن الحالي؟
الإجابة عن هذه الأسئلة هي ما يحاوله كتاب «رأس المال في القرن الواحد والعشرين» لمؤلفه الفرنسي توماس بيكتي الذي ترجم هذه السنة إلى الإنجليزية، واعتُبِر أهم كتاب في مجاله لسنوات طويلة (نيويورك تايمز).. والكتاب مدعم بالبيانات والإحصاءات والوثائق تغطي ثلاثة قرون وعشرين بلداً، ليخرج بإطار نظري جديد لفهم الآليات الكامنة في الاقتصاد الحديث.. ورغم ذلك فهو ليس موجهاً للمتخصصين فقط بل للعموم لأن القضية تخص الجميع كما قال المؤلف. والكتاب للأسف لم يترجم إلى العربية وإن كان تم التطرق إليه في مقالات عديدة لكن بشكل لمحات، أوآراء وتحليل، لكنه يستحق أيضاً أن يعرض خلاصة أهم ما جاء فيه ويبسط دون رأي أو تحليل ويترك للقارئ الحكم، فمن حق القارئ العربي التعرف على كتاب بهذه الأهمية دون إضافة رأي كاتب المقال، وهذا ما سأفعله على مدى ثلاثة مقالات.. فلنبدأ هذه الرحلة..
نمو الاقتصاد الحديث وانتشار المعرفة جعل من الممكن تفادي توقعات ماركس المتشائمة لكنها لم تستطع أن تعدل البناء العميق لرأس المال والتفاوت الطبقي، أو لم تستطع الحفاظ على الوضع المتحسن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فعندما يزيد معدل عائد رأس المال (الأرباح) على معدل نمو الناتج (الاقتصاد) والدخل كما حصل في القرن التاسع عشر، وهو ما يبدو أنه يحصل الآن في القرن الواحد والعشرين، فسنحصل على رأسمالية تولد تلقائيا عدم مساواة تعسفي لا يُحتمل مما يقوض جذرياً قيم الجدارة التي تستند عليها المجتمعات الديمقراطية. إلا أن هناك طرقاً يمكن للديمقراطية أن تستعيد سيطرتها على الرأسمالية وتضمن أن الصالح العام يتقدم على المصالح الخاصة، مع الاحتفاظ بنفس الوقت على انفتاح الاقتصاد وتجنب تقيده.
النقاش الثقافي والسياسي والنظريات حول توزيع الثروة استند لمدة طويلة على فيض من الأحكام المسبقة وقليل من الحقائق. هذا لا يعني عدم أهمية الآراء الشخصية، بل إن المعرفة العقلية بمستويات الثروة والدخل الحديثين مهمة وجديرة بأن يشارك فيها كل فرد لأنها تمس حياة الجميع، ولا يمكن تركها فقط للباحثين والاقتصاديين والاجتماعيين والفلاسفة. ومع ذلك فإن سؤال توزيع الثروة يستحق أيضاً الدراسة العلمية المنهجية. فبدون مصادر محددة بدقة للإحصاءات والمناهج والمفاهيم فإنه يمكنك أن ترى الشيء ونقيضه. إنما البحث العلمي الدؤوب وإن كان دائماً يعتريه النقص، قد يشرح الحالة ويوضحها ويعطي معلومات ويركز الانتباه على الأسئلة الصحيحة.
قبل الوصول لأزمة الوضع الراهن يجدر المرور سريعاً لفكر الاقتصاد السياسي منذ القرن الثامن عشر، بدءاً بما طرحه توماس مالثوس عام 1798 في كتابه «مقال في مبادئ السكان» موضحاً أن أكبر تهديد هو الانفجار السكاني الذي لن يكفيه الإنتاج الزراعي. لكن أحد أكبر المفكرين في القرن التاسع عشر وهو ديفيد ريكاردو يرى التهديد في شيء آخر وهو أن مجموعة قليلة من ملاك الأراضي ستستحوذ حتماً على حصة متزايدة من الناتج والدخل، كما أوضحها في كتابه عام 1817 «مبادئ الاقتصاد السياسي والضريبة»، وان الحل يكمن في زيادة الضرائب على الأراضي المؤجرة.
بعد نصف قرن شارك كارل ماركس رأي ريكاردو في هذا التوقع الحتمي لكنه رأى أن المجموعة التي ستحتكر الاقتصاد هم رأسماليو الصناعة كما في كتابه «رأس المال» عام 1867، حيث تغير الواقع الاقتصادي والسياسي بشكل حاد مع الثورة الصناعية، فلم يعد السؤال حول قدرة الأراضي الزراعية على إطعام السكان، ولا أسعار العقارات، بل حول فهم حركة الرأسمالية الصناعية التي أصبحت مكتملة والوضع المأساوي للطبقة العاملة رغم النمو الاقتصادي أو ربما بسببه، وبسبب الهجرة من الريف للمدن. في أربعينيات ذلك القرن كانت أرباح الصناعة تنمو بينما دخول العمال راكدة وأحوالهم تزداد بؤساً..
ذلك قاد إلى ثورة 1848 التي أطلق عليها ربيع الشعوب، في عشيتها نشر ماركس «البيان الشيوعي» المشهور الذي جاء في مقدمته الكلمات المشهورة: «شبح يطارد أوربا - إنه شبح الشيوعية.» وانتهى بالتوقع المعروف للثورة والوصول للمساواة، ذاكرا بأن تطور الصناعة الحديثة سيؤدي إلى أن تقطع من قدميها أساس بنائها حيث البرجوازية تنتج وتمتلك المنتجات. فالبرجوازية تنتج، قبل كل شيء، حفاري قبرها.. إن سقوطها وانتصار البروليتاريا حتمي!
لم يحدث ما توقعه ماركس في البلدان الصناعية بل في بلد متخلف صناعيا «روسيا» بينما تحسن توزيع الثروة وتقلصت الفجوة بين الطبقات في غرب أوربا وأمريكا، فمثلا منذ بداية العقد الثاني من القرن العشرين بدأ توزيع الدخل بالتوازن فانخفض الدخل لدى الطبقة العليا من 45-50% من الدخل الوطني عام 1913 إلى 30-35% في نهاية أربعينيات القرن العشرين في أمريكا.
ومن هنا ظهرت نظرية كوزنتس «المنظر الرأسمالي الأمريكي» عام 1955،خلاصتها: أن التفاوت في الدخل سيتقلص تلقائياً في المراحل المتقدمة من نمو رأس المال، وفي نهاية المطاف سيستقر عند مستوى مقبول. وساد مثل هذا التفاؤل في الدول الغربية، ففي فرنسا أطلق عبارة «الثلاثين المجيدة» كناية عن الثلاثين سنة من 1945 إلى 1975 التي تحسن فيها توزيع الثروة والنمو الاقتصادي وفلسفتها:»النمو هو مد يرفع كل القوارب».. فما الذي حصل بعدها؟
يتبع