اختيار الإستراتيجية المناسبة لمواجهة التطرف تتحدد عبر تشخيص الأسباب الأولية للتطرف والمتطرفين (من النفسيات الفردية إلى الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية)، وهو ما تناوله المقال السابق، كما أن هذه الإستراتيجية لا بد أن تأخذ بحسبانها موقف المجتمع..
فمن الخطأ أن نتصور المتطرفين معزولين عن المجتمع، فقد يمثلون هامشاً منه أو جزءاً فيه غير قادر على إيصال متطلباته عبر القنوات الرسمية، واختلافهم عن المتطرفين هو على الوسائل وليس على الأهداف. هناك، أيضاً جزء آخر نقيض من المجتمع يرى اجتثاث المتطرفين بلا هوادة، لذا ثمة مجموعة متنوعة من أساليب معالجة التطرف، تتراوح من الأساليب الخشنة إلى الناعمة.. لكن لا توجد طريقة سحرية للحل فلكل طريقة إيجابيات وسلبيات حسبما أكدته التجارب.
بالاستناد إلى ما طُرح في الدراسات، خاصة دراسة المركز الدولي للتعاون وحل النزاعات (بيتر كولمان وأندريا بارتولي)، سيتم هنا عرض أهم الاستراتيجيات المطروحة عالمياً لمواجهة أو علاج التطرف الذي أصبح ظاهرة عالمية لا يكاد يخلو بلد منها. أكثر الاستراتيجيات استخداماً وتأييداً من غالبية أفراد المجتمع، هي إستراتيجية إزالة المتطرفين سواء بالقوة العسكرية (اعتقال القيادات، تدمير مواقعهم..) أو بقوة القانون (الأنظمة الصارمة) والمال والمعلومات لشل قدرة المتطرفين على التنظيم. الجانب السلبي هنا هو عدم معالجة الأسباب الكامنة للتطرف، بل قد تزيد المقاومة نتيجة اكتساب المتطرفين للتعاطف أو انضمام مناصرين لهم (الخلايا النائمة).. إضافة إلى أنه كثيراً ما يتم التضحية ببعض الحريات المدنية وحقوق الإنسان.
ليس بالضرورة استخدام إستراتيجية الإزالة، فغالباً ما تضم كل مجموعة سياسية حتى المتطرفة «حمائم» و»صقورا»، الأولى لديها قابلية للتفاهم والأخرى تناهضه. وفي التعامل العلاجي للتطرف يمكن اتباع عدة استراتيجيات، أولها إستراتيجية عزل المتشددين، من خلال استمالة ودعم أقل الأعضاء تشدداً في المجموعة المتطرفة الذين يشعرون بالاستياء من شدة عنف رفاقهم الأكثر تشدداً. لكن يمكن لذلك أن يؤدي إلى تكثيف الخلاف الداخلي في المجموعة المتطرفة (بين المعتدلين والمتشددين) يغتنمها المتشددون لإضعاف المعتدلين وإقصائهم لتتحول الجماعة إلى تطرف أشد.
لذا هناك إستراتيجية أخرى، وهي التعاون مع وبين مجموعات «معتدلة» داخل جماعات التطرف دون عزل المتشددين، لكن ذلك يستلزم أن تلك الجماعات تتفق بأن استفحال التطرف والعنف هو مشكلة لكافة الأطراف يتعين حلها، وقد ينتج عنها حالة اعتدال يتضمن إدانة الأطراف المتشددة وكشف أفعالها المدمرة للجميع. المشكلة هنا أن هذه الطريقة تبنى على الثقة والضمانات من كل الأطراف المتنازعة لكشف مجموعاتهم المتشددة الخاصة، هذه الثقة تكون هشة في البداية وإذا فشلت فسيعرض الاعتدال أو اتفاق السلام برمته للخطر.
تعديلاً على الطريقتين السابقتين يمكن استخدام إستراتيجية دعم الوسطية. فبعد طول أمد النزاع وعدم جدواه يميل «المعتدلون» داخل الجماعة المتطرفة إلى التفاوض، لذا فإن محاولة تهيئة الظروف كالحوارات الوطنية لجذب هؤلاء المعتدلين وتنشيطهم لتبني مواقف متسامحة بعيداً عن فكرة تدمير الآخر سيكون مكسباً لعلاج التطرف. السلبي هنا أن المحاورين من الجانب المتطرف كثيراً ما يكونون مزيفين (مشهورين إعلامياً مثلاً) لا يمثلون مجموعاتهم فعلاً مما يؤدي إلى استفزاز الأعضاء المعتدلين فعلاً بتلك المجموعات، وجنوحهم مع المتشددين..
إذا كانت الحوارات أو المفاوضات العلنية كثيراً ما تحرج أو تؤدي إلى أضرار سياسية لكافة الأطراف لأنها تظهرهم بمظهر الضعف، فإن هناك من يطرح طريقة الاتصالات غير الرسمية والسرية مع الأعضاء الأقل تشدداً الذين بدورهم يؤثرون في الأعضاء المتشددين، ومن ثم يمهدون الطرق لاعتدال الجماعة المتطرفة. لكن هذه الطريقة محفوفة بمخاطر سياسية لأنها تعتمد على الثقة الفردية (غير رسمية) بين شرائح مختلفة في الصراع، وقد تقع أخطاء بسبب الطبيعة الحساسة للقضايا المحرجة، تؤدي إلى نتائج عكسية، فضلاً عن صعوبة الحفاظ على تماسك هذه الاتصالات مع مرور الوقت.
الجماعات المتطرفة مخترقة من أجهزة المخابرات في مناطق كثيرة من العالم بشكل كبير ومباشر، وفي هذه الحالة يمكن إقامة اتصالات سرية مع بعض قيادات التطرف تؤدي لاحقاً إلى تفاهمات مباشرة وعلنية لعمليات سلام رسمية تشمل أعضاء بارزين من الجماعات المتطرفة. لكن أيضا هنا مخاوف أمنية كبيرة وقد تكون مثل سابقتها عرضة لخطر إفساد العملية من المتشددين مما يؤدي إلى تخريب العملية السلمية برمتها.
بما أن الجماعات المتطرفة غالباً مخترقة استخباراتياً، فهناك إستراتيجية «فرق تسد» عبر تحريك إحدى الجماعات المتطرفة ضد بعضها وإنشاء إسفين بينها يضعف بعضها بعضا ويُنفِّر المتعاطفين معها. لكن قد ينتج عن هذه الطريقة أخطاء تؤدي لنتائج عكسية تدعم وحدة المجموعة المتطرفة عندما تكتسب معلومات مهمة وموارد سخية من الجهة الاستخباراتية التي اخترقتها فيتحول «السحر على الساحر».
خلافاً لكافة الاستراتيجيات السابقة، ثمة إستراتيجية «بناء السلام» التي تعالج الظروف الكامنة المعززة للتطرف، وتتطلب أنشطة على مستويين. المستوى الاجتماعي الكلي: خفض الظلم؛ حماية حقوق الإنسان؛ إضعاف الأيديولوجيات المتطرفة (خاصة بمناهج التعليم)؛ الحد من النزعة العسكرية والعنصرية والتمييز؛ دعم المساواة والمشاركة بالقرار والتسامح وتسوية الخلافات بطرق سلمية؛ وتعزيز المجتمع المدني. والمستوى الاجتماعي الجزئي: الحد من الصور النمطية للآخر كعدو بشع وليس كآخر مختلف؛ تعزيز التعاطف والتفاهم بين الثقافات؛ توفير الدعم الاقتصادي والاجتماعي للشباب. هذه العملية طموحة وشاق، وتبدو لكثيرين مفرطة في التفاؤل وغير واقعية، فضلاً عن رفضها من أغلب المتطرفين بسبب أخذها لوقت طويل وبطيء لا يتحمله المتطرفون بنفسهم القصير، كما أنها قد تُنفِّر قطاعاً كبيراً من المجتمع الذي يرى اتباع نهج استباقي حاد باجتثاث المتطرفين وليس احتواءهم أو التسامح معهم.. فثمة نفس قصير آخر عند المعتدلين!
إذا كانت كل إستراتيجية لها إيجابيات وسلبيات فلا مندوحة عن «أم» الاستراتيجيات، وهي إستراتيجية التناقض: هنا يُستخدم العديد من المناهج المختلفة بوقت واحد أو بمراحل مختلفة عبر محاولة القضاء على التهديدات الأكثر خطورة على الأمن، وفي نفس الوقت التوسع بالوسطية والتصالحية من جهة ومعالجة الظروف المحفزة للتطرف من جهة أخرى. لكن معادلة مزج استراتيجيات الإزالة بالقوة مع استراتيجيات تصالحية وأخرى سلمية بنائية، إن لم تُطبق بطريقة منهجية، فقد تخرب جميعها مؤدية لمزيد من التصعيد. المهمة عسيرة وطويلة لكن ليست مستحيلة.