«داعش» تتقدم بالعراق.. فمن أين تستمد قوتها وأين ستصل؟ هي قويت مادياً نتيجة تغاضي النظام السوري لها وضربه لخصومها، وقويت معنوياً بالعراق نتيجة سوء إدارة المالكي وقمعها، فتتمددت بشماله وغربه مُرحَّباً بها من بعض المضطهدين كراهية للنظام الفاسد وليس حُباً بها..
لكن «داعش» ستواجه تحديات متزايدة ونهاية طريقها يبدو مسدوداً، على الأقل حتى الآن.. فهي تقاتل على جبهتين واسعتين (العراق وسوريا)، وهي تعادي جميع الأطراف وترفض التعايش مع الآخرين وسرعان ما تصبح مكروهة في أي منطقة تحتلها رغم كراهية أهل تلك المنطقة للنظام السابق، وهي غير قادرة على الإدارة المدنية.. فلا مستقبل حقيقياً لها. لكنها، مع ذلك، تمثل خطراً جسيماً يهدد المنطقة..
قوة «داعش» بنيت على أنقاض فشل ذريع سياسياً واجتماعياً في البيئة التي ظهرت بها وتتطلب الهدم وبعده البناء، «داعش» ناجحة في الهدم لكنها لا تمتلك مقومات البناء. أما إرهابها فهو يمثل حرباً نفسية ضد الآخرين، ولعبة معنوية لجذب العقول المتطرفة أو اليائسة التي تنمو في حالات الاضطراب الحادة عندما يشعر الناس بالإحباط أو القهر وأن ليس لديهم ما يخسرونه فيجربون حتى الجحيم.. ألم تقل رغدة صدام حسين قبل أيام أنها «سعيدة جداً بانتصارات عمي عزت، والأبطال المقاتلين، مقاتلي الوالد.»؟
إنما أكبر عامل مادي ساعد «داعش» هو الوضع في سوريا، فلم يعد خافياً أن نظام الأسد ترك عن قصد فراغاً في أجزاء من سوريا لصالح «داعش» كي تساعده عن غير قصد في مواجهة الخصوم الأخطر، وبعد أن يسيطر النظام على المدن الكبرى، سيتفرغ لـ«داعش»، على أساس أنها في نهاية المطاف لن تنجح شعبياً ولا بنائياً. هناك عموماً حالة من الاستخفاف في «داعش» خاصة أنها مخترقة استخباراتياً من جهات عدة، مما جعل هذه الجهات تستخدم «داعش» كلعبة، لكنه لعب بالنار قد يحرق المنطقة!
تغاضي النظام السوري عن «داعش» ليس قول المحايدين فقط بل حتى اندفاعات أقوال ممثلي النظام، مثل ما كتبه العقيد محمد بركات أحد كبار ضباط الجيش السوري، في رد له على مرشح الرئاسة السورية ماهر حجار، الذي انتقد تغاضي نظام الأسد عن «داعش»، ومما جاء فيه: «عدو عدوك صديقك... أن مقرات ««داعش»» وإحداثياتها معلومة لدى الجيش السوري وسلاح الطيران وأرتالهم مكشوفة، بل إن أرتالهم قد تمر بالقرب من قواعدنا ولكن إن يقال في المثل: إذا رأيت عدوك يدمر نفسه فلا تقاطعه.. قيادة الجيش السوري تملي عليها حكمتها التغاضي مؤقتاً عن ««داعش»» بل وربما تقويها إن تطلب الأمر ما دامت تحقق لنا فوائد عظيمة...» (صحيفة الوطن).
لكن ما هي بقية العوامل التي أدت إلى ما حدث بالعراق؟ المراسل السياسي للبي بي سي جوناثان ماركوس قام بجمع العوامل وبدأها بما سماه الخطيئة الكبرى في الحدود التي رسمتها القوى الاستعمارية بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية وتفكيكها، التي لم تأخذ في الاعتبار الاختلافات الأثنية والأقليات. وهذا في تقديري تصور إسقاطي نمطي للانقسامات التي حصلت شرق أوربا مثل يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي، وأوربا عانت قروناً من حروب دينية وعرقية، وكان حلَّها الانفصال. لكن الحال بالمنطقة العربية مختلفة، فلم تكن في السابق أجزاءً متناحرة أثنياً بل ساد فيها التعايش منذ القدم، ولا توجد في دولها مطالب انفصالية سوى مطالب الأكراد للاستقلال الذاتي.
بداية الأزمة التي مدت الإرهاب بدم جديد تكمن في الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 الذي لم يكتف بإسقاط نظام صدام حسين بل دمر الجيش العراقي وفكك الأجهزة الأمنية ثم عاد وأنشأ قوات أمنية جديدة.. هكذا، في القرن الواحد والعشرين: قوة أجنبية تنشئ قوات أمن وطني، بعد أن فقد مئات الآلاف من الأمن والدفاع وظائفهم فجأة! فأين يذهبون؟ «مئات، ربما آلاف من ضباط صدام حسين المدربين جيداً والموهوبين التحقوا بتنظيم «داعش». وفقاً لفواز جرجس (معهد لندن للعلوم السياسية والاقتصادية). تلك حماقة نادرة خلقت الفوضى بدلاً من الديمقراطية، فضلاً عن أن الديمقراطية لا تأتي على ظهور دبابات أجنبية، وناهيك عن أن الغزو لم يُقر أصلاً من الأمم المتحدة..
عندما أدركت أمريكا أنها تورطت لاذت بالفرار عام 2011 تاركة الجمل بما حمل أو لنوري المالكي يخبط به عشواء.. «أصبح السيد المالكي بنفسه أشد عدو لنفسه، متجاهلاً تحذيرات من مستشارين أمريكيين، ومصادقاً لإيران، وفاقداً للثقة بشكل مطرد من الدول العربية، وفي ذات الوقت قام بتنفير الأكراد العراقيين.» كما قال المحلل الأمني الأمريكي أنتوني كوردسمان (مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن)، موضحاً أن المالكي فئوي تقسيمي وكارثة استبدادية وفساد مستشر.. ومعتبراً أن «داعش» لم تَهزِم حقاً قوات الأمن العراقية بالفلوجة والرمادي، أو الموصل بل استغلت غضب السُنَّة والاستياء الذي نمى تدريجياً نتيجة أعمال القمع والاستبداد المتنامي منذ انتخابات عام 2010. فقد تصاعد العنف منذ عام 2011 .. أما القوة التي دربتها أمريكا فسرعان ما فقدت وحدتها الوطنية، وروحها المعنوية، والقيادة، والفعالية.. وكان الهروب المفاجئ من «داعش».. لم تهرب كل القوى العراقية بل بعضها لا يزال يقاتل «داعش»، كما في سامراء، ولكن الكثير في الغرب والشمال انقلب على المالكي على رغم تطرف «داعش»، مما يفسر انهيار القوة العراقية حول الموصل وفرارها الشامل.
هل يستطيع العراق المضي قدماً طالما بقي المالكي في القيادة؟ يجيب كوردسمان: «ربما لا يزال قادراً على رشوة بعض زعماء العشائر السنية الرئيسة، كما أن «داعش» قد تُنفِّر قريباً العديد من السنَّة بالمناطق التي تحتلها، لكن المالكي يبدو تهديداً للعراق بقدر «داعش». فالعراق بحاجة ماسة لقائد وطني حقيقي يضع الوطن فوق مصالحه الشخصية.. بدون ذلك، قد تصبح «داعش» جيباً وتهديداً إقليمياً مستديماً -يقسم العراق إلى شيعة وسنة وأكراد- أو يجره الى أسوأ أيام الحرب الأهلية، وخلق سورية أخرى في العراق.»
«داعش» تتوجه إلى طريق مسدود لكنها في مسيرتها تمثل تهديداً فعلياً للمنطقة سواء في جاذبية خطابها الحماسي للشباب الغر المحبط أو في عملياتها التي قد تجر العراق إلى حرب أهلية.. لا ينبغي الاستخفاف بـ»داعش» مهما كانت ساذجة ومخترقة، فهذا الاستخفاف ساعدها على التمدد والاستقواء..