لا تزال مصائب الأزمة المالية العالمية التي حصلت عام 2008 جاثمة. اللوم عالمياً أُلقي على الليبرالية الجديدة، وقيل حينها إنها لا محالة ستسقط، لأنها رأسمالية مُنفلتة زادت الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وفاقمت التضخم، وأدت إلى معضلات اجتماعية حادة..
هناك من يرى أن التطرف والعنف هما من أعراضها الجانبية. الليبرالية الجديدة (Neoliberalism) حركة اقتصادية ظهرت تطبيقاتها العالمية بسبعينات القرن الماضي في أحضان اليمين المحافظ، وهي نقيض الليبرالية الحديثة (new liberalism) ذات الميول اليسارية التي ظهرت أواسط القرن التاسع عشر، تفادياً للبس المعتاد نتيجة تشابه المسميين.
هذه الليبرالية أصطلح عليها «جديدة» لأن الجديد فيها هو التوجه المتطرف لتحرير كافة النشاطات الاقتصادية من القطاع العام إلى القطاع الخاص «الخصخصة»، وإلغاء الضمانات الاجتماعية التي فرضتها نقابات العمال، والتحرر لأقصى حد ممكن من تدخل الدولة بالاقتصاد، لأنه تدخّل بيروقراطي «بليد» ومنحاز وينقذ الفاشلين.. أي تحرير السوق وتركه للمنافسة الحرة الشريفة المنظمة مما يحسن اقتصاد البلد ومستوى المعيشة.
لكن بعد الأزمة الأخيرة اتضح أن «حرة، شريفة، منظمة» خضعت تحت سيطرة الشريحة المالية المصرفية لثلاثة عقود مما حوَّلها إلى فوضى كازينو قمار أمريكي يقوم على مبدأ المخاطرة الجسيمة لتحقيق أرباح ضخمة لقلة ضئيلة على حساب الأغلبية. لذا فإن الأوربيين يرفضون تقليد الرأسمالية الأمريكية، لأنها «عنيفة ومتوحشة» ولا تأخذ بالاعتبار الضمانات الاجتماعية للمواطنين، كما تقول صحيفة فاينانشال تايمز.
أمام هكذا فوضى، ثمة من توقع اختفاء البنوك التي ارتكبت أخطاء حمقاء فادحة، وتسترت على ممارساتها المريبة ولم تعترف بأخطائها (شالرز ويبلوزسز). فهذه البنوك راهنت على استمرارية انخفاض أثمان العقارات ومنحت قروضاً هائلة لعدد كبير من المواطنين المتعثرين الذين لم يستطيعوا السداد. وحين بدأت المصاعب بالظهور، توهمت البنوك بأن الأزمة ستمر وتأتي الأيام الوردية فكذبها الواقع وكشف عماها المتخدر تحت تأثير الجشع بالأرباح الطائلة.
وأيضاً تحت تخدير الإيمان الإيديولوجي بالمبدأ الليبرالي المالي «دعه يعمل دعه يمر»، بزعم أن حرية السوق تضمن تنظيمه تلقائياً من ذاته، لكن النظام تأزم من ذاته (دون تدخل خارجي) حين تركت عمليات إقراض واسعة مفتوحة بطريقة همجية، حتى أصبح وول ستريت على شفير هاوية كما يقول الملياردير الأمريكي جورج سوروس. ولم تمارس جهات الرقابة على النشاط المصرفي دورها بجدية، فالمراقبون صرحوا بأن الأمان مستتب والبنوك صلبة بينما كانوا يعرفون أن المصارف تخفي ممارستها في بند لا يخضع للمراقبة ويسمى خارج الموازنة..
رغم كل ذلك لم تسقط الليبرالية الجديدة.. لماذا؟ لأن الآخرين فشلوا! وضع فوكوياما أطروحة طويلة حول ذلك تتلخص في أن الفشل العالمي لليبرالية التقليدية واليسار عموماً في تكوين قاعدة شعبية عريضة يكمن في المسألة الفكرية وعدم طرح أفكار مقنعة. فقد كان متوقعاً أن اليسار سيزدهر عالمياً بعد الأزمة الاقتصادية عام 2008، إلا أن العكس صحيح كان الازدهار لليمين الشعبوي. فعلى مدى ثلاثة عقود لم يتمكن أي مفكر من الليبراليين أو اليساريين أن يطرح فكرة على نحو واضح، سواء في الأطر المفاهيمية أو في جذب الجماهير.
ومن الناحية الاقتصادية البحتة ثمة سببان لبقاء الليبرالية الجديدة يدَّعيهما المنافحون عن النظام الرأسمالي.. الأول عدم نجاح بدائل المناهضين للرأسمالية أو أنها لا تزال نظريات لم يختبرها الواقع. الثاني أن الرأسمالية أظهرت على مدى قرنين خاصية تميزها عن الأنظمة الاقتصادية الأخرى، وهي تخطّيها لكوارث مفاجئة، تظهر مؤقتاً وتتكرر دورياً، حتى اعتبرت الأزمات الاقتصادية ملازمة للرأسمالية، (موريس فلامان وجان سنجر).. فبعد كل أزمة كان النظام الرأسمالي يمر بالدورة التقليدية (انتعاش-ركود-انتعاش)، ويثبّت أقدامه بشكل أفضل، لذا فالأزمات تقوي النظام الرأسمالي، لأن البنوك والشركات الفاشلة تسقط ويبقى الأفضل..
لكن اليساريين يرفضون الزعم بعدم وجود بدائل.. يقول تشومسكي أن البديل موجود وهو «الديمقراطية الاقتصادية»، أي السيطرة على أماكن العمل والمؤسسات الاقتصادية الأخرى من قبل المشاركين والجماعات ذات التنظيم التشاركي. ويرى تشومسكي أن هناك الكثير من الخيارات كالنقابية (Syndicalism) وهي مذهب مناهض للرأسمالية ينادي بجعل الاتحادات العمالية تسيطر على الاقتصاد، والرقابة الشعبية على أماكن العمل والمؤسسات الاقتصادية. كذلك هناك اليسار الليبرالي ويسار الوسط (الليبرالية الديمقراطية والليبرالية الاشتراكية) المنتشرة في أوربا حيث يمارَس الاقتصاد المختلط (الفردي الحر والتشاركي) وبقدر كبير من تدخل الدولة وضماناتها الاجتماعية والحمائية..
ليس اليساريون فقط، بل حتى من داخل النظام الرأسمالي مثل جوزيف ستيغليتز (نائب رئيس سابق للبنك الدولي)، وبول كروغمان وكلاهما بروفيسوران حاصلان على نوبل للاقتصاد، يؤكدان طالما أنه بالضرورة الأسواق ليست كاملة الحرية وأن حقوق الملكية والمعلومات ناقصة وطالما أنه لا بد من تدخل ما للدولة ونفوذ لمن يملكون على حساب من لا يملكون فذلك يؤدي عادة إلى خنق هذا الاقتصاد الحر، فضلاً عن أن الدول الدكتاتورية السابقة (كدول الاتحاد السوفييتي السابق) التي تحولت لليبرالية الجديدة تنخر فيها المحسوبية الرأسمالية..
الليبراليون الجدد يرون أن كل ما يملكوه خصوم الرأسمالية هو النقد فقط.. وهم يعترفون بالأزمات لكنهم يرونها أخطاء يعدلها السوق والمنافسة الحرة، فالمؤسسات المالية التي لا تلتزم بالأساسيات وتسير بأي طريقة مركزة على جني الأرباح فقط .. مثلا لم تركز بأصول القروض، الذي يحتفظ فيه المقرض والمقترض بنوع من المسؤولية، ولم تهتم بتقييم قدرة من يقترض المال على السداد، ولا بتقييم المشروع تجارياً والتخصص والخبرة.. إلخ، هذه المؤسسات هي من أهم أسباب الأزمة، وأن سقوطها هو جزء من التصحيح بينما تدخل الدولة لإنقاذها جزء من المشكلة..
الآن، الرأسمالية أصبحت عولمية تتمدد لتشمل مفاهيم وطرق تفكير جديدة مدعومة بثورات تكنولوجية (ثورة المعلومات والاتصالات) تكسر حدود الدول وأنظمتها الحمائية.. لتغطى آثارها كافة مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية وتحولها إلى حالة تجارية ترى الإنسان وثقافته وإبداعاته بضاعة عولمية في سوق الإنترنت.. فماذا تتوقع النظريات للمستقبل؟ لا يبدو أن ثمة نظرية تعمل بل «دعه يعمل دعه يمر» باقية بكل شراستها، إلى أن تحين كارثة أعظم فربما يظهر شكل اقتصادي جديد، فالتاريخ لن ينتهي بالليبرالية الجديدة لأنها مجحفة، والاستقرار لا يستمر مع الإجحاف!