في معامل أكبر شركة تكنولوجية بالعالم (آي بي إم)، نسيت الباحثة جانيت جارسيا خطوة بالوصفة الكيميائية للحصول على مادة بلاستيكية قابلة للتدوير بسهولة، وعندما عادت وجدت أن الدورق مليء ببلاستيك أبيض قوي جداً وخفيف.
حاولت أن تفصله لم تستطع، فأحضرت مطرقة.. قوي جداً وخفيف الوزن، أليس هذا شيئاً عظيماً لكثير من المواد التي نستخدمها خاصة في وسائل النقل كالسيارات والطائرات والفضاء والإلكترونات؟ أدى هذا الخطأ في المختبر إلى اكتشاف عائلة جديدة غير معروفة -لم يتم تسميتها بعد- من المواد الكيميائية القوية جداً بشكل غير عادي وفي نفس الوقت خفيفة، وتحمل خصائص «الشفاء الذاتي» أي لها القدرة على إصلاح الأضرار الناجمة عن الاستخدام، ويمكن إصلاحها بسهولة وإعادة استخدامها.
هذه المواد البلاستيكية هي نوعان جديدان من البوليمرات الاصطناعية قابلة بسهولة لإعادة التدوير مما له أهمية في صحة البيئة؛ ومن المتوقع أن يكون لها تأثير كبير على المنتجات الاستهلاكية في حياتنا كالتعبئة والتغليف وصناعة مكونات الإلكترونيات الدقيقة، حسبما نشرته صحيفة نيويورك تايمز مؤخراً.
الجميل في الموضوع أن ثمة باحثين سعوديين مشاركين في هذا الاكتشاف العظيم أو الخطأ الجميل، فقد تم الشهر الماضي نشر نتائج هذا البحث في أهم مجلة علمية عالمية وهي «ساينس» من قبل فريق من الباحثين (ثلاثة عشر باحثاً) ترأسه الباحثة «المخطئة» جارسيا ومن ضمن الفريق أربعة باحثين من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتكنولوجيا (عبدالله بن طالب، عبدالله العبدالرحمن، فارس السويليم، حمد المقرن).
«هذا هو عصر البوليمر.
«يقول جيمس هدريك، العالِم في المواد العضوية المتقدمة في شركة IBM بعد إعلانها عن اكتشافها الأخير.
هذا الاكتشاف يمثل أول عائلة جديدة يتم اكتشافها منذ عدة عقود كما يقول العلماء، وسيكون لها تأثير كبير على تصنيع العديد من المجالات في حياتنا.
ويقول بوب ألين، أحد كبار المديرين في الكيمياء وأبحاث المواد المتقدمة: «هناك معرفة تقليدية بأن الفئات الرئيسية من مواد البوليمر قد اكتشفت كلها.. ولكن مع هذا النهج..
قد وصلنا إلى فئة جديدة». وقال تيموثي لونج، أستاذ الكيمياء في جامعة فرجينيا للتكنولوجيا هذا الاكتشاف يثير مقولة «الصدفة هي أم الاختراع!» الصدفة أو الخطأ أو الطريق غير المقصود الذي يؤدي لاكتشافات مذهلة كان ملازماً لتطور صناعة البلاستيك منذ بدايتها إلى الآن.
منذ سنين وهناك ثورة مستمرة في تقنية البوليمرات الجديدة، أساسها التغيرات في السلاسل الطويلة للجزيئات البسيطة المتصلة من خلال الروابط الكيميائية.
هذه المواد هي اليوم تدخل في كل مكان في الحياة الحديثة وتقريباً في كل شيء نستخدمه وقصتها مع الأخطاء مثيرة للدهشة.
بالأساس، أول اختراع لبلاستيكة صناعية بشكل كامل في عام 1907 كان عن طريق الخطأ عندما اخترع ليو هندريك بيكلاند الباكليت (نوع من البلاستيك).
كان سعيه الأولي لابتكار بديل لمادة اللك الطبيعي، وهو منتج مكلِّف مستمد من خنافس أمريكا اللاتينية والكاريبي.
بيكلاند خلط الفينول والفورمالديهايد، وهو منتج النفايات من الفحم، وعرض الخليط إلى حرارة.
بدلا من إنتاج اللك، أنشأ دون قصد البوليمر الذي كان فريداً من نوعه من حيث أنه لا يذوب في ظروف الحرارة والضغط.
هذا البلاستيك الجديد دخل في استخدام كل شيء تقريبا.
كانت هذه المواد الاصطناعية أصيلة بذاتها، أي لم تكن لتقليد مادة طبيعية مثل العاج، مما بشر بعهد من المواد الاصطناعية الجديدة التي لم تهدأ إلى يومنا هذا.
ففي عام 1938، بينما كان الكيميائي روي بلونكيت يبحث عن المبردات البديلة، قام بعملية بلمرة غير مقصودة، وأنشئ بطريق الخطأ إحدى أكثر المواد الزلقة التي غيرت في التصنيع.
الصدف تحدث أمامنا كل يوم لكن العبقرية والجهد والتنظيم هي ما يجعلها تقتنص لشيء مفيد، فلقد تتخلل مسار التطور البشري سلسلة طويلة من الاكتشافات والاختراعات التي حدثت عرضيا؛ إما بالصدفة أو بالخطأ.
يُقدر الخبراء أن ما بين 30 و50 في المائة من الاكتشافات العلمية حصلت عرضياً بشكل أو بآخر وأثرت في تاريخ البشرية..
في ظهيرة أوائل نوفمبر عام 1895، كان الفيزيائي الألماني ويلهلم كونراد رونتغن يختبر ويرقع ملخبطا مع أنبوب أشعة الكاثود (تيار من الإلكترونات الفسفورية المستخدمة اليوم في كل شيء من أجهزة التلفزيون إلى المصابيح الفلورسنت)، عندما لاحظ أن قطعة من الورق مغطاة بسيانيد بلاتين الباريوم أظهرت توهجاً عبر الغرفة.
كان يعرف أن الوميض الذي رأى لم ينشأ بواسطة أشعة الكاثود لأنها لا تنتقل إلى هذا الحد.
لم يعرف ما تلك الأشعة، فأطلق عليها أشعة إكس للدلالة على طبيعتها المجهولة.
بعد مزيد من البحوث اكتشف مجموعة من المواد شفافة للإشعاع الذي يمكن بدوره أن يؤثر على لوحات التصوير الفوتوغرافي.
أخذ رونتغن صورة أشعة إكس ليد زوجته فظهرت العظام وحلقة الخاتم! الصورة أذهلت العالَم وأثارت اهتماماً طبياً وعلمياً كبيراً..
وفي عام 1901م حصل رونتغن على أول جائزة نوبل في الفيزياء.
في عام 1928 عاد العالِم ألكسندر فلمنج إلى معمله ليجد أن طَبَقاً للبكتيريا العنقودية قد تركت بالإهمال بلا غطاء؛ لكنه لاحظ أن العفن الفطري على مزرعة البكتيريا قتل العديد منها.
فلمنج بحث في المادة وأطلق عليها البنسلين (أي العقار المستخلص من العفونة)، وبعد إجراء مزيد من البحوث وجد أن المستخلص يمكن أن يقتل البكتيريا الأخرى، ويمكن أن تعطى للحيوانات الصغيرة دون ضرر.. ليبدأ بعدها التاريخ الحقيقي للمضادات الحيوية المصنعة.
وعلى هذا المنوال حصلت أخطاء أدت إلى اكتشافات مفيدة من المجالات الصحية مثل عقاقير التخدير، جهاز تنظيم ضربات القلب، السكر الخالي من الطاقة؛ إلى المجالات الصناعية كرقائق السيلكون، المطاط المبركن (إطارات السيارة)، الزجاج الآمن، الديناميت، الملابس المصنعة.. حتى الطعام مثل رقائق البطاطس «التشبس»، رقائق الذرة «الكورنفلكس» والكوكاكولا، وأدوات المطبخ كالتيفلون (التيفال)، والفولاذ المقاوم للصدأ الذي أصبح من أدوات المطبخ (الملاعق والشوك والسكاكين)، بل حتى أعواد الكبريت والفياغرا، كلها جاءت عرضياً اقتنصتها عقول ألمعية.. أما تفاحة نيوتن فهي دلالة على الانتباه الفذّ للحادثة العرضية وربطها العبقري بآخر النظريات العلمية التي وصل إليها الإنسان.