يُقال بأنه بُعيد الغزو الصليبي الجارف لبلاد المسلمين، سادت حالة يأس وخذلان وزهد بالحياة في أوساط المجتمع الإسلامي، نتيجة الخسائر والدمار الذي لحق بهم وأدى إلى انتشار الأوبئة والأمراض، وساهم في فقد جمع كبير من المسلمين لأراضيهم ومُمتلكاتهم، فسادت الروح المعنوية المخذولة، وتفشّى الفقر والبطالة وقلة الحيلة.. فأمر علماء المسلمين حينها وعلى رأسهم الإمام أبو حامد الغزالي بجمع كل الأحاديث النبوية الصحيحة والضعيفة بل وحتى الموضوعة منها، ونشرها في كتابه الشهير (الفقر والزهد) حتى يرفع من الروح المعنوية لأمة محمد حينها، عبر رفع شعارات الزهد وتحقير الحياة الدنيا مقابل حياة الآخرة، والترويج لفكرة أن الدنيا بنعمها ونعيمها للكافر والآخرة هدية المسلم.
ورغم أن قرونا ً مضت على تلك الحادثة التاريخية، وعقوداً ًطويلة مرّت على إصدار مثل هذا الكتاب، إلا أن جمعاً كبيرا ًمن علماء المسلمين لازال يروّج لمثل هذا الفكر، وشريحة واسعة من الشعوب الإسلامية تستقبله بحفاوة لا نظير لها، بل وتطبقه كمنهج فكر وحياة، حتى أضحى يستوطن وعي ولا وعي العقل الجمعي للمسلمين بعامتهم وعوامهم .. وأصبحنا نستقبل أي إنجاز غربي في مجالات الطب والفلك والفن والتكنولوجيا وغيرها بعبارة بأن سيادها وسعادتها بأيديهم، وبتنا نتشدّق بذلك حينما نسافر إلى أوطانهم بارعة الجمال وبالغة التطور والنظافة والرقي، حتى غرقنا نحن في دوامة تخلّف وتراجع على جميع المستويات، نتغنى بالماضي حتى تجاوزنا الحاضر أملا ًفي أن نستفيق يوما ًبعد الممات على جنة خضراء أعدت للمتقين.
إن مثل هذا الفكر مزروع في أذهاننا منذ الطفولة، يحاصرنا في المناهج الدراسية والمنابر الدينية والخطب الوعظية، فأذكر أن أختي الصغيرة عادت يوما ً من مدرستها وهي تغالب الدموع خوفا ً من يوم القيامة وهلعا ًمن عذاب القبر بثعابينه ودوده، عادت خائفة ومؤمنة بأن النار أقرب من الجنة، وبهذه الطريقة الترهيبية الكلاسيكية استطاعت معلمتها أن تسيطر عليها، فالعقل الخائف لا يفكر.
يستقبل الأجوبة الجاهزة فتنشل قدرته على التساؤل والشك.
ولم يعد يبدو غريبا ً أن نستقبل صورا ً تصدح بذلك الفكر الأعوج، إذ تداول الناس عبر «الواتس أب» صورة رجل ملتحٍ يزور المرضى في المستشفيات ليوزع عليهم أكفاناً سماها «منازل السعداء»، وبدل أن يتمنى لهم الشفاء والتعافي والعودة لإكمال عمارة الأرض وإتمام رسالته عليها، قدم لهم أكفانا ً تذكرهم بالموت وظلمة القبور والاستعداد لها، مستعينا ًبلحيته التي توحي بالزهد والسكينة والوقار.
لست بصدد التساؤل عن غياب الرقابة عن مثل تلك التجاوزات الإنسانية من قبل إدارة المستشفى، بل عن هذا الفكر الترهيبي الذي يمجد الموت والفناء ويحتقر الحياة والإنسان ويعتبر ذلك من فضائل الأعمال، جعلنا ،نعيش نصف حياة، وسلبنا متعة إعمار الكون وتحسين حياة بني الإنسان، وانتزع منا الروح الوثابة للبناء والعطاء والارتقاء وجعلنا نزهد في الدنيا بدلاً من أن نطمح لسيادتها، حتى تبوأنا مراتب متأخرة بين الأمم، علما ً بأن الدين براء من مثل تلك التوجهات والدعوات التي تحرّض على التخاذل والسلبية بل مناقض لها.
أخيرا ً.. لو اطلع عمر بن الخطاب على تلك الثقافة وسمع مثل تلك الدعوات لتعامل معها بدرّته الشهيرة حين قال: «أمتّم علينا ديننا» فرحمك الله يا عمر.