في زحمة أخبارنا المحبطة ومقالات صحافتنا التي أدمن بعضها عادة جلد الذات، وأمام ارتفاع ترمومتر الخذلان الاجتماعي لكثير من القضايا، تطُل علينا بعض الأخبار السعيدة بين الفينة والأخرى لتعيد إلى عالمنا شيئاً من التوازن، وترش على جنباته رذاذ فرح وتفاؤل، البعض منها يستحضر قيماً راسخة في شخصية الفرد السعودي، وأتحدث اليوم تحديداً عن قيمة «الفزعة» أو ما يسمى في موروثنا الإسلامي «إغاثة الملهوف» الذي أثبت لي مرة بعد مرة أنه أحد أهم مكونات شخصية المواطن السعودي، الذي نشأ وهو يرى والده يضرب على رقبته أحياناً معلناً تكفله أو توليه إنجاز قضية ما، ويشاهد والدته وهي «تفزع» لحلفة أختها أو إحدى صديقاتها بتولي إعداد العشاء مثلاً، فتغلغل فكر الإعانة والمساندة في عقله اللاواعي وأصبح بشكل أو بآخر أحد سمات شخصيته التي تظهر في مناسبات حياتية مختلفة.
ويطيب لي هنا أن أسرد تجربة شخصية حدثت لي في مطار دبي الدولي حين «فاتتني» رحلة العودة إلى الرياض ونحن على أبواب شهر رمضان الكريم، وطلبات حجز التذاكر على أشدّها، ما سيمنعني من العودة إلا بعد أيام من بداية الشهر، فجلست في زاوية قصيّة أندب حظي، ولم ألاحظ أن رجلاً سعودياً خمسينياً كان يراقب نقاشي المحموم وملامحي المرتبكة وأنا أتحدث مع مسؤولي الحجوزات في المطار، فإذا به يتقدم نحوي ويسألني بتهذيب عما إذا كنت أواجه مشكلة؟ فرويت له الموضوع وآثار القلق والضيق تعلو محيّاي، فعرض علي المساعدة مؤكداً أني بمثابة ابنته التي كان سيتعامل معها بنفس الطريقة، وما هي إلا ساعات قليلة ويأتي لي بتذكرة طيران في رحلة صباح الغد ويرحل دون أن يطلب جزاءً أو شكوراً.
ويبدو أن «فزعة» الشعب لا تقتصر على مساندة بعضهم البعض، حيث تناقلت تغريدات توتير رسالة طالب أمريكي يؤكد أن معلمه سيعفيه من الامتحان النهائي إن حصلت تغريدته على «خمسين ألف ريتويت»، وفعلاً كسب الرهان وتم إعادة تغريد الرسالة أكثر من خمسين ألف مرة، ويبدو أن الشعب السعودي هو أكثر من تفاعل مع هذا الطلب وانتفض فازعاً لتحقيقه، ما جعل «ويل» الطالب الأمريكي يكتب رسالة شكر خاصة إلى شعب المملكة خاتماً إياها بـ «you guys are the best» أي أنكم الأفضل!!
كما تابعنا قبل فترة كيف سطر السعوديون أروع قصص التلاحم والتراحم بزيارة (إبراهيم) الذي كتب تغريدة في توتير يشكو فيها وحدته وحاجته إلى من يزوره ويخفف آلام مرضه وعجزه، وما أن تناقل الشعب الرسالة حتى توافد مئات بل آلاف الزوار ملبّين النداء، وأزهرت ممرات المستشفى بباقات الورود التي ملأت المكان ولم يقتصر الموضوع على الزيارة، بل جُمع لإبراهيم ملايين الريالات للعلاج في الخارج.
على الرغم من أن إبراهيم ليس بشقيق أو قريب أو صديق لهؤلاء الزوار والملبين، لكن ما حرّك تلك الجموع الغفيرة هو دافع الأخوة والإنسانية و»النخوة» الاجتماعية، ما جعل صحيفة «الاندبندنت» البريطانية تخصص تقريراً صحفياً يتناول الحدث.
النخوة.. الغيرة.. الفزعة.. كلها قيم أخلاقية نبيلة اختزلت في مواقف كثيرة أبطالها كانوا سعوديين، دفعهم الوفاء وحفزهم العطاء المعنوي لإنجازها، وكم نظلم أنفسنا وننهك أرواحنا حينما ندمن السلبية و»نتفنن» في اقتناص العيوب، ونتجاهل الإيجابية والبياض من حولنا.
أختم هذا المقال بأبيات تم تداولها في توتير حول قضية إبراهيم تقول:
حنا جسد واحد ولا هي غريبة..
نفزع ولاحد يلحق الجود.. منّة..
يوم اشتكى ابراهيم ثقل المصيبة
كلٍ تمنى ياخذ الجرح منّه