في صورة مؤلمة شوهدت أم مسنة تركها «ابنها العاق» في أحد شوارع جازان رغبة منه في السكن دونها مع زوجته، الصورة لقيت استنكاراًً واسعاًً ورفضاً لهذا التصرف المشين وغير الإنساني كما وصفه بعضهم.
هذه الحالة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة.. حيث كنا ولازلنا نسمع كل فترة عن مواقف مؤلمة مشبعة بالعقوق وعدم الامتنان من قبل الأبناء، ولكن بدرجات ونسب متفاوتة. قد ينزعج بعضهم مما أنا آتية لذكره، وخصوصاً لأني لا أنوي طرح الموضوع كما كان يطرح دائما في سياقات عاطفية تستنكر هذا التصرف. باعتقادي أننا هنا لا نعاتب الابن وحده وليس هو فقط من يوضع في كرسي الاتهام، بل من منح هذا الابن سلطة وجعل له قيمة وكلمة وأهمية أحيانا أكثر من الأم نفسها، وهي في بعض الأحيان ثقافة مجتمع شديدة التطلب، تكافأ المرأة التي تحرق نفسها وتعلق حياتها من أجل أبنائها متناسية أن لها حياة كاملة تعيشها وتستمتع بها هي الأخرى، وقوانين وضعية واجتماعية تفرض على المرأة محرماً وولي أمر حتى وإن أخرجته هي من رحمها وعمق أحشائها وقدمته للحياة، وفي حال وفاة الزوج أو غيابه وانشغاله، فلا تصدر وثائق وطنية أساسية إلا بإذنه، ولا تسافر سوى بورقة موافقة منه، بل ولا تعمل في أماكن معينة إلا بتوقيع يثبت رضاه، وبعد كل ذلك نتوقع من الابن ألا يفرد عضلاته ولا يوسع صلاحيات سلطته ولا يتأمر و«يتبختر» على والدته.
للأسف تربت المرأة بجميع أدوارها «ابنة، أخت، زوجة، أم» في ثقافتنا على أن تكون ضعيفة وخانعة، منقادة لا قائدة، وتابعة لا صانعة قرار إلا من رحم ربي.
أكاد أجزم أن تلك المرأة التي تركها ابنها في قارعة وهي في خريف العمر، لم تقصر في واجب الأمومة والمحبة والرعاية تجاهه، بل ربما غالت وبالغت ولم تلق بعد ذلك سوى النكران والجحود، هي من برّت بابنها بدل أن تطالبه أو تنتظر منه العكس، علمته حين رضيت وسلمت واستسلمت لسلطته عليها، إنها بحاجة لرعايته أكثر مما هو يحتاجه لبرها ورضاها، فعاشت خائفة من أن يقطع عنها مصل المحبة أو الوصل.
للأسف أن عددا كبيرا من علاقات الأبناء بأمهاتهم في مجتمعنا بات «آية معكوسة» أصاب انعكاس إيقاعها آذاننا بالنشار والصمم، وقلوبنا بالقهر والألم تجاه جمع كبير من النساء اللاتي تعلمن بوعي أو دون وعي أن يمارسن رحلة الأمومة بموازين قيم مختلة حتى بتنا نشهد أمهات تعيسات بل وخائفات من المستقبل وما قد يحمله لهن من وحدة وضياع، إن أجمل ما في الأمومة هي أن نعلم الأبناء كيف يستقلون بحياتهم ويبنون مستقبلا يليق بطموحاتهم دون أن نكون أوصياء عليهم أو نقبل أن يكونوا أوصياء علينا، بل نحيا معهم على قدم واحدة من الصحبة والرفقة الطيبة والمحبة المشبعة بالاحترام لمكانة وحق كل فرد في أن يعيش الحياة التي يتمناها لنفسه بعيداًً عن شعارات التضحية وقصائد التفاني التي تمجد عطاءات الأم دون أن يسألها أحد.. هل أنت ِسعيدة ومطمئنة من الداخل؟! هذا هو الأهم أعزائي.
نبض الضمير:
قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.