** يُروى عن أبي حيان التوحيدي أنه حاضر في بغداد بطلبٍ من أحد متنفذيها أربعين محاضرةً لم يُعدْ واحدةً منها مثلما لم يُعدَّ عنها قبلاً، وهو دأّبُ العلماءِ الموسوعيين الذين فاضت بهم الأزمنةُ في كلِّ الأعراق والثقافات، وفي أدبياتنا التراثية يمثل الموسوعيون القاعدةَ والتخصصيون هم الاستثناء، أما لماذا التمثيل بحكاية أبي حيان فلأننا شهدنا ونشهد مثله بين معاصرينا ممن لم يرتهنهم منهجٌ مدرسيٌ مؤطر.
** لن ينتهيَ الموسوعيون ما ظلَّ بحثٌ وباحثٌ وما بقيت جديةٌ وتجددٌ، وقد تتناقصُ أعدادُهم بفعل المتغيراتِ الظَّرفيةِ والتقنيةِ والعلميةِ وكلُّها تدعو إلى الانحصار في دوائرّ ضيقةٍ متفرعةٍ من دوائر أوسعَ توفر للمتخصصِ ميدانًا للإبداعِ والخروجِ عن مدارس الاتباعِ وتقود المبرِّزين إلى تبديلِ نظرةٍ أو اكتشافِ نظرية.
** تجزَّأت أقسامٌ كانت موحدةً، وتناءى علماءُ كانوا متقاربين، وبات التخصصُ الدقيقُ طريقَ التمايزِ والموسوعيةُ منطقَ التفردِ الذي «يُحفظُ ولا يُقاسُ عليه» كما يقول النحاة، وتبقى القراءةُ المبكرة والذاكرةُ الحافظةُ والتفرغُ الذهنيُّ والاستزادةُ المتواصلة والمقدرةُ على المحاكاة كما المحاكمة وسائطَ فاعلةً في خلقِ المتعددين المتميزين.
** ومثلما يُخلفُ الوقتُ مؤشراتِ بوصلته تتماهى المفردة حتى تفقد اتجاهَها وتغدو الموسوعيةُ مفرغةً من حقيقتِها، ويظهر على الساحة الإعلامية من يدَّعون أنهم يعرفون كلَّ شيء عن أيِّ شيء فيتصدرون المنابر الإعلامية «العتيقة والجديدة» ويتصدَّون لمناقشة ما يطرأُ من قضايا؛ لا فرق عندهم إن جاءت حول سوقٍ أو نوقٍ وحُبٍ أو حربٍ وتفكير أو تكفير.
** استُسهل الكلامُ وتماهت التخصصاتُ، وبتنا لا نعلمُ من يكتب ماذا؛ فلا المرجعية العلميةُ تأذن لهم ولا الممارسة العمليةُ تُسعفهم، وصارت القضايا السياسيةُ والثقافيةُ والاقتصاديةُ والدينيةُ والرياضيةُ والفنيةُ وسواها متاحةً ومباحةً أمام العارف والهارف حتى تعادل السنامُ مع الغارب كما في المثلِ الشعبيِّ ذي القصة الطريفة الذائعة، وراق لصاحبكم تعبيرٌ قرأه في «الملتقى العلمي للتفسير وعلوم القرآن» معزوُاً إلى الشيخ المكنَّى «أبا عبدالعزيز الشثري» قال فيه: « ما حيلتُنا في زمانٍ لا تَعرف أرضُه من يطؤها فساوت بين القَلوصِ والعِكرشة».
** الشكوى عامة لا خاصة؛ فكما هي في «القراءة والأسلوب واللغة» التي عرضت لها المقالات» الخميسيةُ» الماضية فإن فوضى الكتابة داءٌ عُضال شفع له في الزمن الماضي ندرةُ المتخصصين وموسوعيةُ المؤلفين، لكنه اليوم غيرُ مبرر؛ فالادعاء بالشموليةِ المعرفية لا يقوم عليه دليلٌ من آثارهم المقاليةِ والتأليفية، والمقدرة لن تتأتى لمن يقفز فوق الحواجز وبين الحقولِ ليفتيَ بدُربةٍ تفتقر إلى الدراية.
** كان بعضُ أصحابنا الإعلاميين يتندرون ببعض الضيوف الذين لا تُعيقهم»نعمُ» الموافقةِ على المشاركة في أي برنامجٍ أو الإدلاء بأي تصريح ولو لم يكن ضمن اهتماماتهم، وحين يكربهم أمرٌ يحتاج إلى السرعة فإن هؤلاء هم المنقذون، وهو الموقف الذي عزّزته الفضائيات والشبكات فالمطلوب ملءُ الفراغ والهدفُ الاشتهار.
** الهذْر هدْر.