يحاول بعضُنا عزل نفسه «ولو مؤقتًا» عن وسائط الاتصال رغبةً في النأيِ عن أجواء التوترِ بل القهر في زمنٍ صيَّر الدموعَ ماءً والدماءَ هباءً والتكاذبَ وسمًا يتبادلُه المرسِلُون والمستقبِلُون؛ فالطغاةُ يحكمون والسُّعاةُ يتحكمون، ومن يدوس على هامات الكبار صغيرٌ ومن يستهينُ بقيمِ السماء أصغر.
** يُهذبنا العمرُ كثيرًا وتهدينا التجاربُ أكثر ونُوقنُ أن معظم ما يطفو على السطح ليس الحقيقةَ ولا جزءًا منها؛ فما يستترُ خلف النوافذ منفصلٌ عما يدور خارجَها، ويبقى من يُحللُ ومن يعللُ في دوائرَ مستنسخةٍ تعي الأمرَ وضدَّه ثم تتفحصُ الوجوهَ والتوجهَ فتبدل المقدمات وتُؤوِّل النتائج وتقفزُ فوق الحواجزِ غيرَ عابئةٍ بما يسطره التأريخُ عن طقوسها المتقلبة.
** عاش المخضرمون زمنًا أبيضَ لم نعرف فيه من البريد إلا النسخةَ المجانية من مجلة» هنا لندن»، ورسالةً أو اثنتين تصلنا من أصدقائنا الطيبين نتبادل صورنا الشخصية المشفوعة بعبارتنا العتيدة: «الذكرى ناقوسٌ يدق في عالم النسيان»،وحين اغتربنا وتهيأت لنا صناديقُ بريدٍ خاصةٌ أصابنا السأمُ من تراكم الدعايات مزاحمةً الصحيفة الأثيرةَ وخطابات و»شيكات» الملحقية التعليمية ،ولو اجتمعت كلُّها لما تجاوزت بضعَ موادَّ لا تأخذ من وقتنا غيرَ دقائق.
** لم يتبدل الحالُ حين عدنا، وما تزال الموادَ البريديةُ معقولةً الكمِّ والكيف،وفيها الكتاب والخطابُ والمجلة والنشرة وجميعُها مما نأنس به ويروق لذوائقنا في تضادٍّ مع ما تقذفه الوسائطُ الشبكية الخاصة في هواتفنا عبر برامج الاتصالات المتعددة والمجاميع التي تنتظمها؛فالرقمُ بالمئات والمحتوى خليطٌ من الهزلِ والجدِّ والموثوقِ والمختلقِ والملائمِ والنشازِ والجديدِ والمتكررِ والمفيدِ والمؤذي، ولا سبيلَ لتنقيتها أو حجبها،وهي تُضايق الراشدين وتسيءُ للناشئين وتُخلُّ بشروط التربية وقد تُصادمُ ثوابتَ الدِّين وتقلق غدَ الوطن.
** من يطلْ به الزمنُ يكتشفْ جوانبَ مَرَضيًّةً لهذا البريد التقنيِّ، وقد نقتنعُ أن للتدفقِ المعلوماتيِّ غيرِ المنضبط تأثيرًا سالبًا على الصحةِ الذهنية والنفسية والجسدية للفرد تحيله إلى إنسانٍ افتراضيٍّ يُصدقُ فيصفقُ ويتراجعُ فيُكذبُ ويترددُ ويتعددُ وتنشأ شخصياتٌ غيرُ سوية تزدوجُ معابرُها ومعاييرها، وما تزال الدراساتُ المتعمقةُ في هذا الحقل أقلَّ من المتوقع.
** ولعل من مفارقات هذه المواد البريدية عدمَ افتراق باعثيها وفقًا للعمر والمؤهل والجنس والبيئة؛ فالأكثريةُ ترسل ما تستقبله دون أن تدققَ في محتوياته،وقد تتناقض في رسالتين متجاورتين بين واحدةٍ تحمل عظةً وأخرى تعرضُ إثمًا وربما تضاءلت قاماتٌ كبيرةٌ لانغماسها في هذا العالم المائج وعدم مقدرتها على التوازن بين ما هو متاحٌ وما هو مباح ، وبين ما يضيفُ وما يُضعف وما يُصلحُ وما يجرح، وبين ما هو حقٌ وما هو منغمسٌ في الباطل.
** في الفضاء مجموعاتٌ بريديةٌ مضيئةٌ ولدى صاحبكم منها مجموعتان رائدتان مختصتان بالكتاب والمعلومة والحوار فلنسعَ لازديادها حتى تصبحَ هي الظاهرةَ والغُثاءُ هو الاستثناء.
** الهذْرُ هدْر.