* * من المتيقن اليوم أن الأسلوبَ واللغةَ والمرجعيةَ الثقافيةَ لم تعد مهمةً في عالم الكتابة بل ربما جنت على المتمكن فيها فقعدت به عن مجاراةِ التوجه العامِ نحو الإثارة والمباشرة والعادية والوظيفية التي تَمنحُ مدىً متسعًا لخارطة الكُتَّاب ذوي الأرضية العريضةٍ من الجماهير في موازاة الطرف الآخر الغائب أو المغيَّب عن المعادلة الحضورية؛ فالأهمُّ من التربةِ غبارُها ومن البحر موجُه ومن القمر خسوفُه.
* * ليس الأمرُ وليدَ يومِنا الذي جعل تأليف الكتبِ مباحًا بل مستباحًا، وفي زمنه شكا الدكتور طه حسين من التراجع المخيف في بيان الكتبة وتردي أساليبهم وسأمِ الناس من الثقافة الجادة؛ ففي كتابه (خصام ونقد) - وعمره أكثر من نصف قرن - نعيٌ للغةِ الجميلة والطرح العميق.
* * يبقى العميدُ فريدَ مرحلته؛ فقد جمع في أسلوبه بين اليسر والعسر؛يقودنا سطرُه الأول نحو جملته الأخيرة بمتعةٍ ساحرةٍ لم تتهيأْ لكثيرين من كُتَّاب المقالة والباحثين؛فالعاديةُ نهجُ من استسهلوا الأسلوبَ والتكلفُ طبعُ من رونقه،والتوازنُ أمرٌ شاق.
* * زدنا على زمنه أن أصبح الكبارُ يقلدون الصغارَ؛ فما دام كلٌ يهذرُ ويهدرُ ويَلقى معجبين وقد ينضم إلى المؤلفين وتُفتح له أبواب النجومية المشرعةُ- وهي هدف الأغلبية- فلمَ العناءُ بحثًا أو صياغةً أو تأصيلًا أو تفصيلًا ،ونشهد أساتذةً تنازلوا عن إتقانِ لغتهم وصفاء أساليبهم في حُمَّى الركض التقني والرغبة في الانتشارمادام أنه لا فرق في ميزان القارئين بين النورِ والديجور.
* * قالوا إن الأسلوبَ هو الرجل وما غادروا الحقيقة، ولا نحتاج إلى كبيرِ عناءٍ كي ندركَ من الأسلوبِ خُلُقَ صاحبه من علمٍ وتعالمٍ ودُربةٍ ودرايةٍ وتمكنٍ ومكانةٍ ورؤيةٍ ورويَّة وتواضعٍ وضعةٍ ووعيٍ وعِيٍّ وآفاقٍ وأنفاقٍ ولغةٍ ولغوٍ وهدوءٍ ومهادنةٍ ورياحٍ ورماح، ومن اليسير الحكمُ على الكاتب « أو من يسمى كاتبًا تجاوزًا « عبر أسلوبه، وربما اختلفت شخصيتاه لتبقى شخصيته الحقيقيةُ محدودةَ التداولِ والتناولِ، وستدفن هذه وتخلدُ سطورُه مدارًا لمحاكمته الممتدةِ مادام نقدٌ وما ظلَّت حياة.
* * وبالرغمِ من السعي للتهوينِ من قيمة الأسلوب اتكاءً على صدارة الفكرةِ فإن وسم الكاتب يُرى حين يجتمعان، والمقدرة تتجلى حين نستطيع تمييز الكاتب من أسلوبه ولو غاب اسمُه ورسمُه، تمامًا مثلما نستطيعُ تمييز الشاعر المحلقِ والشعر المتفوق، ولن نحتاجَ إلى كبير عناءٍ لإدراك أن ما نقرأُه شعرٌ أو شعير، وهل الطرحُ المنتشرُ نثرٌ أم نِثار.
* * الأسلوبُ لغةٌ تشرق فيها المفردة وتتماسك الجملة ويرقى البيان، ومع الفروق المعروفة بين الأساليب الأدبية والعلمية والخبرية والفقهيةِ والقانونية والصحفية وسواها فإنها تبقى مميزةً بعلوها الذاتي وتعاليها على العاميِّ والدارجِ والمبتذل والخاطئ، والمختصون في علوم اللغة يدركون مدارات الأسلوب ومنطلقات الأسلوبية، وقد تزامن كبارٌ فلم يشبهوا بعضَهم وجاء من خلَفهم فصاروا توائمَ سيامية.
* * الأسلوب هُويَّة.