لا يمكن لنا أن نربط بين صبر الإنسان وجلده وتحمله وربما تنازله عن بعض حقوقه ووصفه ظلما بالسذاجة المفسرة ضمنيا بالغباء والبله، ذلك أن من الذكاء في بعض الأحيان التنازل أو التغافل وفي مواقف إطاعة الأوامر حتى تسير الأمور على ما يرام، خاصة إذا كان الموج عاتيا والعواصف هوجاء، وقد قيل احن رأسك للعاصفة حتى تعبر.
الإنسان الصبور والمتنازل عن بعض حقوقه دائما ما يربط سلوكه بالضعف والغباء، خاصة عند مقارنته بمن يتمسك برأيه ولا يتنازل عن أي جزء من حقوقه، فيوصف بأنه جهبذ وذكي وفلته حتى ولوكان صبره قليلا وأخلاقه تجارية وعمله ضعيفا.
المقارنة في نظري ظالمة وجائرة بحق الصبور، ففي الوقت الذي كان يحمل الآسية و يشيل هم الناس ويسعى لكل خير متحملا عيوب سواه نجد نقيضه أكثر استفادة وأقل عملا ونفعا، وبرغم ذلك تجد من هم مبهورون بذكائه وفطنته حتى أنه من فرط ذكائه يستطيع التقاط ما بأيديهم خلسة وقسرا، وهذا التقييم الاجتماعي يوضح سلوك الانسان الجائر والذي لا يكرم من يخدمه بينما يمجد من يغتصب ما بيديه حتى ولو كان من تلك العينات المتذاكية.
المفارقة بين الصبور الحبوب الطيوب والمتذاكي مفارقة لافتة نجد صورها كثيرا في تعاملاتنا الحياتية. هناك من هو ذكي لكنه لا يعمل كثيراً، بل ربما قضى وقته بالنوم و»التسدح»، ونقد ولوم غيره من البشر، وقد يعد نفسه الأفضل والأذكى في عالم لا يؤمن إلا بالأقوى أو هو ممن يعرفون من أين تؤكل الكتف، براجماتي في تعاملاته، و قد يصف نفسه بأنه خير من يخدم مجتمعه، لكنه في واقعه المزري لا يقدم خدمة لأحد من الناس، بل قد ينظر إلى الكعكة في يد اليتيم من باب العجب، ولا يسلم الطيبون من شره وسلاطة لسانه وإسقاطاته وبذاءاته، فهم فاكهته اللذيذة في مجالسه، يبر البعيد الذي يرتجي من ورائه مصلحة دسمة يسيل لها لعابه، بينما يعق أقرب الناس إليه. لا يوقر فيهم كبيرا ولا يعطف على صغيرهم. همه تقزيم الناس والتعدي على حقوقهم والاستحواذ على النصيب الأكبر من كل شيء دون أن يؤدي شيئا من الواجبات، والمصيبة أن لا أحد يستطيع أن يقلل من شأنه الذي صنعه عنوة بحد لسانه.
وهناك من يقضي زمانه في صبر وجلادة، لكنه غير مقدر مأكول مذموم، لأنه ببساطة لا يجيد إلا العمل والكد، لم يسر في الطرق الملتوية ولا يعرفها ليوجه بوصلته نحوها، فهو حاضر وقت العمل وغائب عند اقتسام الكعك اللذيذ. يسخره أهل المصالح لخدمتهم ويستغنون عنه حين ينتهون منه. هذه النوعية موجودة في حياتنا فهي من رائحة زمن الطيبين.
في مقابلهم نجد نوعيات كثيرة في سلوكها تظهر الذكاء الخارق لكنها لا تجيد العمل إلا بحدود، ولا تعطي إلا بمقدار، ولأنها لا تحقق ما تتمنى تنقلب على كل شيء في المجتمع، فتشتم الحظ وتسيء لكل ناجح وتتهم الغير بأنهم السبب في تعاستها واخفاقاتها.
بين مدعي ذكاء متمرد، وصبور متحمل اختلت الموازين بسبب غياب المعايير الاجتماعية المنصفة والتي تضع من يعمل في مكانه الطبيعي الذي يستحقه.