قال أبو عبدالرحمن: هذه هي الحلقة النهائية، ولم أُحْسن تقدير أعداد الحلقات؛ فبقي شيئ أكثر أريد أن أقوله عن الترجمة الحية والميتة، وعن مقارنات أخرى في الرباعيات، وعن أسطورة الكوز، وعن ديك الجن، وعن شكسبير، وعن استلهام نسيب عريضة ورئيف الخوري والبدوي المُلثَّم لأسطورة ديك الجن؛ فعسى الله أن يعينني على إكمال هذا العبء في كتاب مستقل.. ووردت قصيدة ديك الجن التي منها (وأنفتُ من نظر الغلام إليها) في ديوانه في قافية الهاء، ومثل هذا يقع كثيراً في الدواوين، والصواب أنها يائية لاهائية؛ فهي الياء بوصل الهاء.. ويلاحظ أيضاً أن بعض مُحَقِّقي الكتب لا يُذلِّل البحث للمتلقي مثل محقق الأغاني يترك الإشارات المهمة عن تفسير النص أو ثقافته أو فكره، ويُعْنَى بتوضيح الواضح، فيفسر مثلاً الردى بأنه الموت، ويسفح بيصبُّ، وأن العبرة بالدمعة، ويوم النشور بيوم البعث.. ثم يستدل بالآية الكريمة من سورة الفرقان!!.. وهذا من عبثِ غيرِ المختصين ممن تسوَّر على تحقيق المخطوطات.. والقصة والقصيدة من أخبار العرب في العشق على نحو ما سقته في كتابي (كيف يموت العشاق)، والاحتمالات أنها قد تكون حقيقة، وقد تكون أسطورة، وقد تكون مزيجاً منهما إنما هو بالنسبة للشعر، وأما القصة فالصحيح القطعي أنها أسطورة؛ لما أسلفته عن بواعثها عند العرب في كتابي المذكور.. فإما أن يكون ديك الجن نفسه حوَّرها؛ لأن له قصة مشابهة - وهذا أضعف احتمال -، وإما أن يكون نُحِّل إياها قصداً أو سهواً؛ لتشابه القصتين.. ويكفي أن الأسطورة قديمة الرواية بقرون قبل أبي العلاء والخيام، ومن رواتها العُتْبي عن والده، وهما إخباريان يَرويان للمنادَمة لا غير.. إن غاية ما يمكن تصوره من أحداث لديك الجن من ناحية فهم النص مع بقاء التوثيق التاريخي في ذمة البحث يمنع من انتساب الأسطورة بكل خيوطها إلى ديك الجن؛ وإنما يُتَصَوَّر أنه قتل مرة جارية؛ لأنها خانته، فقال مقطوعته:
ليتني لم أكن لعطفك نلت
وإلى ذلك الوصل وصلتُ
ومقطوعته:
لك نفس مواتية والمنايا معادية
قال أبو عبدالرحمن: من الاحتمال الراجح أن يكون لديك الجن جارية قتلها، وقال فيها شعراً.. إلا أن القصة المستفيضة عن قتل ديك الجن لجاريته غيرةً عليها أسطورةٌ عربية قديمة قبل أن يولد ديك الجن، ثم لما رُكِّبتْ عليه انتحالاً، أو تنحيلاً: كان التركيب غير ذكي؛ لأن مدلول القصيدة ينافي مدلول القصة.. ثم تمادى الخيال بأسطورة البرنية المستظلة بفلسفة الكوز الخيامية.. وعن تأنُّق الخيال في قصة ديك الجن قال الأستاذ فؤاد عبدالمطلب: «ولم تَبْق حكاية ديك الجن على حالها كما جاءت في كتاب الأغاني، بل قام المتأخرون بالتغيير في نسيج الأحداث والشخصيات.. وكلما ابتعد المؤلِّف في الزمن عن الحادثة أدخل عنصراً جديداً، وهذا الجديد على الأغلب نابع من خيال المؤلف؛ إذ يبدو أن مأساة الشاعر قد ألهبت مشاعر الأدباء والكتاب المتأخرين؛ فجعلتهم ينسجون، ويضيفون» [مجلة الفيصل العدد 292 ص23 24 من بحث ((ديك الجن الحمصي وعطيل شكسبير/ نظرة مقارنة)) للأستاذ فؤاد عبدالمطلب].
قال أبو عبدالرحمن: لقد بيَّنتُ أن ديوان ديك الجن في كل طبعاته لم يصدر عن أصل خطي، وإنما هو تجميع من كتب المصادر، وما ذُكر من مصادر مفقودة لنسخ خطية من ديوان ديك الجن فلم يقم دليل ولو ضعيف على أنها من جمع الشاعر أو من جمْع من رواه عنه، بل القصة وشِعرها رُوِيا عن ديك الجن بعد موته بمئة عام!!.. ورُوِيا أيضاً قبل موته بدون كوزي الرماد، والقصة الأسطورة، والشعر المصاحب لها مصدر مؤكَّد لمسرحية شكسبير (عُطيل).. إلا أن دارسي الأدب المقارن يذكرون ذلك إشارة وجزماً بلا استدلال كما سلف من إشارة عبدالمطلب صالح، وقال فؤاد عبدالمطلب: «وثَمَّةَ أحاديث عن احتمال وجود تأثر وتأثير بين قصة ديك الجن الحمصي ومسرحية شكسبير، وكون القصة مصدراً أساسياً للمسرحية.. وعلى أية [الصواب: أي] حال فإن العلاقة بينهما غدت موضوعاً يُطرق على نحوٍ شِبهِ دائمٍ في حلقات البحث أو المشروعات الدراسية التي يقوم بها طلبة مقررات الأدب المقارن في الأقسام الجامعية التي تُعنى بالأدب واللغة.. بيد أنه لم ينشر سوى القليل [الصواب (قليل)؛ لأنه لا معهودَ يقتضي التعريف] من هذه الحلقات والمشروعات، ولعل ذلك عائد إلى الصعوبات التي يفرضها تناول مثل هذا الموضوع، ثم إن دراسة هذه العلاقة تطرح مشكلات منهجية أولية تتعلق بالبحث الأدبي المقارن؛ وبذلك تبدو المصطلحات الأكثر تناولاً في قضية التداين [يعني أَحْذَ أديب مِن أديب] الأدبي هي الترجمة والمحاكاة والأسلبة والاقتراضات والمصادر والنظائر والتأثير.. وفي مسرحية عطيل ليس هناك ما يدل على محاكاة أو أسلبة أو اقتراض واضح من قصة ديك الجن؛ لهذا فإن دراسة العلاقة بين القصة والمسرحية إنما تقوم على استقصاءٍ لمصدر الثانية، وبيان مدى تأثرها بالأولى عن طريق الترجمة، والانتقال في الأغلب الأعم».
قال أبو عبدالرحمن: كنت نشرت مباحث عن شكسبير وهاملت بجريدة الجزيرة، وظلَّت مسرحية عطيل ضمن مسرحيات أخرى قيد البحث في مسوداتي، والذي سأُبْديه مِن مسوداتي ههنا أنَّ الانصراف عن بناء مسرحية عطيل على الأسطورة العربية عبثٌّ وحريَّة سلوكية لا فكرية؛ وسبب ذلك الإلحاح على المحاكاة والأسلبة والفروق.. إلخ، وهذه الأمور خارج محل النزاع كما أسلفت؛ ولهذا قال الأستاذ فؤاد عبدالمطلب مجملاً المقارنة: «وتقوم دراسة العلاقة بين قصة الشاعر ديك الجن كما وردت في الأدب العربي، ومسرحية عطيل مغربي البندقية كما وردت في الأدب الإنجليزي [بل رجل حذر ذو خصائص تليق بالفتى العربي] للشاعر والكاتب المسرحي وليام شكسبير، على تناظر أوتشابه في الأفكار والأحداث، والشخصيات التي تكتنفها القصة والمسرحية على الرغم من الفوارق الكبيرة بين حياة ديك الجن وعطيل من حيث الشخصية والمكان والزمان؛ فقد كان ديك الجن كما ورد في كتاب الأغاني شاعراً من ساكني حمص، ولم يبرح نواحي الشام، ولا وفد إلى العراق، ولا إلى غيره: منتجعاً بشعره، ولا متصدياً لأحد.. أما عطيل فهو قائد عسكري من أهالي البندقية في إيطاليا.. جاب أرضها ومياهها متصدياً لأعدائها، وزائراً أصقاعاً عدة [الأفصح (عديدة).. أي كثيرة العدد، وأما عِدَّة فلا تكون بهذا المعنى إلا إذا أضيفت إلى كثرة] من الأرض.. كما يفصل بين حياة الشخصين زمن طويل؛ فقد عاش ديك الجن قبل مؤلف مسرحية عطيل بنحو ثماني مئة سنة، وتوفي الأول عام 850م، وتوفي الثاني عام 1616م.. ووردت قصة الديك في الأصل خبراً لقصة، ومن المفترض أنها حقيقية صاغها من مخيلة الأدباء وبلاغتهم فيما بعد.. أما حكاية عطيل فقد جاءت من حيث الأساس عملاً أدبياً بارعاً، وأهم ما يميز حياة ديك الجن وعطيل هو العمق المأساوي لتجربتهما الإنسانية».
قال أبو عبدالرحمن: هذه الفروق لا أثر لها ألبتة؛ لأنها غير مؤثرة في المقارنة بين نص مأخوذ منه، ونص آخذ؛ وإنما تكون هذه الفروق مؤثرة لو أن القصة منسوبة إلى شكسبير على أنه العاشق القاتل الشاعر، وتكون منسوبة إليه بنفس التفاصيل المطابقة لما نسب إلى ديك الجن؛ فيقال حينئذٍ: (مُحال أن يصح الخبر عن شكسبير بهذه التفاصيل التي لا تنطبق على واقِعِه، وهي مروية عن شاعر عربي قبله بقرون تنطبق على حاله حقيقةً أو ادِّعاءً حسب قابلية تاريخية؛ فإن كانت الفروق غير مؤثرة قيل: (هما قصتان متشابهتان وقعتا في زمن سابق ولاحق، ولا عجب في حدوث الوقائع المتشابهة).. إلا أن موضوع المقارنة ليس هو نسبة الحدث والشعر إلى شكسبير على أنه فَعَلَ ذلك وقاله حقيقة أو ادِّعاءً عليه، بل الموضوع أن شكسبير صاغ قصة وشعراً نسبهما تخيلاً لا حقيقة، ولا ادعاءً إلى شخص وهمي، واتَّخذ لذلك ظروفاً من الأحوال والمكان والزمان وفق تقنية الرواية الأدبية (سواء أكانت باسم الرواية، أم القصة، أم المسرحية؛) وحينئذ يكون الحدث (لا الصياغة بالشرط الروائي الفني) من ابتكار خيال شكسبير، أو من مأثور قراءته.. وإذا ثبت الأخير فإن تحقيق تلك الفروق شرط ضروري لتحوير المأثور سواء أكان واقعياً أم أسطورياً، ولولا تلك الفروق ما نُسِبَ الإبداع إلى شكسبير، ولا أظن أن هذا الشرط يغيب عن لمَّاحية الأستاذ فؤاد؛ وكيف يغيب وقد رأيته يقول: «وفي هذه المسرحية يتخذ الكاتب من محبة امرأة ومقتلها محوراً لبناء خطة درامية مأساوية محكمة الخيوط.. إن واقعية الأحداث ومصداقيتها في مسرحية عطيل وصفات الشخصيات فيها، وقدرة شكسبير على استخدام المصدر الأصلي للمادة المعالجة: تُعَدُّ انتصاراً فنياً عظيماً للأديب المسرحي».
قال أبو عبدالرحمن: لن يكون الانتصار الفني العظيم للأديب المسرحي إلا بذلك الشرط الذي يُحوِّر المأثور تحويراً يُبعد التقارب شخصيةً ومكاناً وزماناً وأحوالاً، و إلا كان العمل مجرد ترجمة للمأثور، واستلاباً غَبِيَّاً.. والفروق هذه تدل على لقاءٍ من وجه آخر، وعلى أن ابتداع الفروق مطلب فني.. خذ نموذج ذلك ظواهر تجعل عناصر المسرحية والأسطورة أشخاصاً ومكاناً وزماناً متشابهةَ العقدةِ والحبكة والأحداث مع الفوارق.. قال فؤاد عبدالمطلب: «وتتشابه شخصية ديك الجن وشخصية عطيل في كونهما عربيين يتصفان بصفات بدوية: (الأول شامي، والثاني مغربي).. وكلاهما يفاخر بشرف نسبه، وبصفاته المتميزة.. يقف عطيل في المشهد الثاني من الفصل الأول، ويقول: إنهم يجهلون ما سوف أذيعه ساعة أوقِن أن في التباهي شرفاً لي، وهو أنني أستمد حياتي وكياني من أسرة ملكية السُّدة، وأن مزاياي بإمكانها أن تخاطِب والرأسُ عالٍ هذه المصاهرةَ السامية التي أدركتها؛ فاعلم يا إياغو: أنني لولا حبي دزديمونة الكريمة لما أقحمت حريتي الطليقة داخل طوق وحدود ولو أعطيت ثروات البحركلها.. ويتركَّز الفخر والاعتزاز عند عطيل في أعمال الحرب والبطولة والشجاعة بصورة أساسية، ويوازي ذلك عالم الأدب والشعر والعزة الشخصية لدى ديك الجن.. لكن عطيلاً هو الشخصية الشكسبيرية الوحيدة التي تقترب من شخصية ديك الجن في رؤيتها الأخلاقية للعالم، وفي درجة حساسيتها وانفعالها وجرأتها وتعقيدها.. إن هذه الصفات تحديداً هي التي أدت إلي ما أدت إليه من مأساة في حياة الرجلين، وهي بحاجة إلى مزيد من الدرس والتعمق.. إن معرفة ديك الجن امرأة تخالفه في المعتقد الديني، والتقارب الذي حدث بينهما بسبب الحب والزواج يقابله معرفة عطيل لامرأة من أسرة نبيلة خالفت أهلها والأعراف، وتزوجت منه.. قال والد دزديمونه برابانيتو في المشهد الثاني من الفصل الأول عندما جاء إلى الدوق يشكو عطيلاً: عذراء حَيِّية أبداً، ساكنة الروح، وديعتها؛ حتى لتحمرَّ خجلاً من عواطفها؛ وإذا هي رغم [الصواب: على الرغم من أن] الطبيعة والسن، والتصديق.. رغم كل شيئ: تقع في غرام من كانت تفزع من النظر إليه!!.. إنه لحكمٌ مبتور شديد النقص فيمن يُقِرُّ بأن الكمال قد يشطُّ هكذا ضد قواعد الطبيعة كلها؛ فيضطر المرء إلى البحث عن مكايدِ جهنميَّةِ المكر في تأويل ذلك؛ ولذا فإنني أؤكد ثانية أنه سيطر عليها بمزيج ما.. يتحكم بالدم، والهوى، أو شربٍ ما مشحون بالتعازيم.. وكما تتشابه شخصيات ديك الجن وعطيل في النظرة الأخلاقية والسلوك والشك والغيرة: تتشابه شخصيتا ورد ودزديمونه في كونهما زوجتين وديعتين عفيفتين مخلصتين وغائبتين [قال أبو عبدالرحمن: لا معنى للعطف بالواو ههنا.. وإذا أراد البليغ الانتقال من الوصف إلى العطف فذلك لميزة في المعطوف، والأبلغ الاستئناف بضمير الفصل هكذا مثلاً: وهما غائبتان] عن دائرة الفعل دائماً، وتُحاك حولهما قصة خيانة ملفقة، وتفاجأ كلتاهما بصاحبها أو زوجها وهو يهم بقتلها.. كلتاهما بريئتان من الخيانة، لكن يد القتل كانت أسرع من أن تتيح لهما أية [الصواب: أي، وأية للاستفهام يطلب التمييز بين شيئين أو أشياء] فرصة لإثبات براءتهما؛ ونتيجة لهذه المأساة يُجَنُّ الرجل الأول حزناً وندماً وأرقاً، وينتحر الثاني كمداً وتكفيراً عن خطيئته» [المصدر السابق، ص27 عن مقدمة جبرا إبراهيم للمآسي الكبرى لشكسبير (هاملت، وعطيل، والملك لير، ومكبث)].
قال أبو عبدالرحمن: إذن غَيَّر شكسبير الفروق الشكلية.. أي غيَّر البطل العربي، والمكان العربي، والزمان العربي.. وأبقى عناصر قوام القصة والقصيدة التي لا يتم حبكها فنياً إلا بها؛ لأن الحبكة الفنية لعمل عربي مأثور، وليست إبداعاً شكسبيرياً بحتاً، واستلهم صفات أبطال الأسطورة العربية الذين كان لهم دور في المسرحية؛ فهذا لقاء لا يستطيع أيُّ مكابرٍ مَحْوَه، ولا يكون وقعُ الحافر على الحافر في مثل هذا؛ لأنه تخيُّلُ حدثٍ لا وقوعَ حدثٍ.. وهو تخيُّلٌ احتاج إلى عناصر خيالية عديدة، وحبكة أسطورية مركبة شعراً ونثراً، ولا يلتقي الخاطر على هذا؛ فهذا من الحديث الطويل الذي لا يمكن اتفاق خاطر اثنين على توليد مثله كما قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى.. قال أبو محمد: «ولو أنك تُكلِّف إنساناً واحداً اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه.. يُعلم ذلك بضرورة المشاهدة، فلو أدخلت اثنين في بيتين لا يلتقيان، وكلَّفتَ كل واحد منهما توليد حديث كاذب: لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره.. هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلاً.. وقد يقع في الندرة (التي لم نكد نُشاهدها) اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة، والكلمتين نحو ذلك.. والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت.. شاهدنا ذلك مرتين في عمرنا فقط، وأخبرني من لا أثق به: أن خاطره وافق خاطر شاعر آخر في بيت كامل واحد.. ولست أعلم ذلك صحيحاً، وأما الذي لا أشك فيه وهو ممتنع في العقل فاتفاقهما في قصيدة، بل في بيتين فصاعداً.. والشعر نوع من أنواع الكلام، ولكل كلام تأليف ما.. والذي ذكره المتكلمون في الأشعار (من الفصل الذي سموه المواردة، وذكروا أن خواطرَ شعراءَ اتفقت في عدة أبيات): فأحاديث مفتعلة: لا تصح أصلاً، ولا تتصل، وما هي إلا سرقات وغارات من بعض الشعراء على بعض!!».
قال أبو عبدالرحمن: انظر الإحكام في أصول الأحكام 1/105/ دار الكتب العلمية ببيروت وهي مشهورة بالسطوِ على طبعات الكتب، وإسقاط حواشي المحققين، وإحداث حواش عديمة الجدوى.. ومن البدهي أن يسقطوا الإفادة عن أصولهم في التحقيق؛ لأنه لا أصول لهم إلا جهد الآخرين .. والشعر يحصر الكلام في نصف بيتٍ مثلاً بوزنه وقافيته وسياقه؛ فيوجد الاتفاق مع الندرة.. وهو يريد اللقاء اللفظي.. أما المعاني فيحدث في المشترك الإنساني كالمشاهدة العادية، والثقافة المشتركة، وقد أحكمت أصول ذلك في كتابي (مجموعة الأعمال الكاملة للآداب العامية، والفنون الشعبية) عندما تطرقتُ للمقارنة بين أدب العامة وأدب الفصحاء.. والمُراد ههنا امتناع اللقاء المعنوي أيضاً من كل الوجوه في خبر طويل نادر الوقوع، وهو مصحوب بصياغة أدبية شعراً ونثراً.. واللقاء بين شكسبير والمأثور العربي لقاء شِبْهُ كامل من ناحية صفات الأبطال وتشابه أدوارهم، وأما الفروق الفنية الكثيرة فهي التي تجعل شكسبير مُبْدعاً لا حاوياً؛ وبناء على ما سبق: فإن هذا اللقاء المعنوي المطلق دليل على أن مصدر شكسبير المباشر ذو أصل عربي فيما يتعلق بعطيل.. والجهد الذي سيُبذل لمعرفة بداية الترجمة الأجنبية للآثار العربية فالغرض منه بيان سبب اللقاء، والتاريخ له، وليس الغرض منه إثبات اللقاء المُتَعمَّد؛ فذلك اللقاء المطلق دليل نفسه، وديك الجن لم يُصبْه جنون،والأعرابي الفزاري قتل زوجته غيرة، ولم ينتحر، بل أثخنته الجراح، وهكذا عُطيل لم يُجَنَّ؛ وإنما وصف شكسبير غيرته العنيفة بالجنون.. والتعبير بالأسلبة بعد إثبات صحتها الصرفية لغة، والاقتراض والمحاكاة: ليس إحالة إلى مصطلحات معروفة في الأدب المقارن محددة بدقة كتحديد التراث لأنواع السرقات الأدبية بمصطلحات عديدة؛ فما علينا إذن إلا التعلُّقَ بالمعنى اللغوي؛ ومن ثمَّ لا نرى في عمل شكسبير سلباً بإطلاق، لأنه لم يأخذ عناصره الفنية وإن أخذ مقومات الحدث الفكرية والحسية؛ (وإنما السَّلب في أخذه الحدث بمقوماته ثم تحويره فنياً إن كان قاصداً إخفاء تأثره، فيكون ذلك من باب السرقات)، وأما المحاكاة فالأمر أكبر منها من جهة مقوِّمات الحدث على نحو ما سبق تفصيله عن السلب تماماً تماماً..مع أن للمحاكاة في الأدب معنى اصطلاحياً غير ذلك، والاقتراض لا معنى له إلا في جزئيات بعد التأكد من أن اللاحق أَخَذَها عمداً غير قاصد الإخفاء.. على أن الاقتباس والتضمين هولتعبير المناسب، وأما الاقتراض فيكون في اللغة عندما يُنقل اللفظ بمعناه إلى لغة أخرى؛ وإذا لم يثبت أن شكسبير تعمَّد إخفاء مصدره، فعمله معارضةٌ وليس أَخْذاً.. وليس إدلاله بعناصر مقوِّمات الحدث الأسطوري الساذَج وما صاحبه من شعر ضعيف المستوى، وإنما إدلاله بالعمل الفني الرائع الذي حوَّل به سذاجة المأثور إلى إبداع فني عالمي رائع.. ولا معنى لقول الأستاذ: «إن المقارنة لا تكون إلا بالاستقصاء لمصدر عطيل عن طريق الترجمة»؛ فهذا إحالة من المُحال بمعنى الممتنِع لما هو واقع مشاهَد، بل المقارنة حضور ماثل بين نصين موجودين بين أيدينا: هما المأثور العربي الأسطوري، والمأثور المسرحي الشكسبيري، والبحث عن وجود الترجمة ذو غرض، وهو تفسير سبب اللقاء.. ومن الأحكام الصارخة بالتنصل من المسؤولية، واحترام عقل القارئ: الحكم بأنه لا أسلبة ولا محاكاة.. إلخ.. يقول هذا وهو يشرف على هذا اللقاء المعنوي المطلق؛ فهل في التناقض أكثر من هذا؟!... كما أن الإجماع على أن مئة حكاية (هيكانوميثي) للكاتب الإيطالي جيرالدي تشنيتو: مصدَرُ شكسبير المباشر، ولو كان الأمر كذلك لكان شكسبير قاصر الثقافة.. بل أجزم بأن هذه الحكايات ليس من الضروري أن تكون مصدرَ ثقافته، بل مصدره ثقافة واسعة امتصَّت ثقافة الشرق الأوسط قبل وجود شكسبير بقرن، وهو في أعقابها في توسُّعٍ أكثر.. إن تقصِّي الأستاذ فؤاد عبدالمطلب بداية ترجمة التراث العربي إلى أوروبا، أو إهابته بالباحثين إلى ذلك: عمل مشكور، وجهد في ريادة مجهول.. إلا أن استحالة أو تأخُّر الكشف عن بداية الترجمة: لا يعني أن الأسطورة العربية لم تصل إلى الغرب؛ لأن البحث عن الترجمة إنما يؤتي ثماره في نشاط الترجمة الجماعية كدلالة ظاهرة الرشدية اللاتينية على أن فكر ابن رشد عُرِف في أوروبا بالواسطة وبالترجمة المباشرة مثل الاطلاع على كتب موسى بن ميمون اليهودي وهو مُجيدٌ العربية والعبرية واللاتينية.. ويؤتي ثماره في أعمال الترجمة الفردية حينما توجد هذه الظاهرة عند فرد متميز بالترجمة احترافاً.. أما تواصل الفكر العالمي والأدب العالمي إذا لم توجد ظاهرة الترجمة أفراداً أو بمؤسسات علمية -: فيكون بالقراءة من قارئ يجيد العربية مع لغته، أو بنقله عن سائح من بني جلدته يجيد العربية.. على أن العمل الأسطوري تَرِثُه أمة عن أمة بالنقل الشفهي محوَّراً وغير محور؛ فتكون الأسطورة العربية التي رُكِّبت على ديك الجن وصلت شهياً غير محوَّرة.. وليس من الضروري أن يكون النقل عن ديك الجن مباشرة؛ فمثل هذه الأسطورة سواء نُسبت إلى ديك الجن، أو إلى من قبله: تتوارثها ذاكرة الدهماء والعامة، ولا يَهُمُّها تحقيقُ اسمِ بطل الأسطورة؛ فتَفِد على الأمم الأخرى بالنقل الشفهي؛ ولهذا عبَّر عنها جيرالدي بأنها حكاية، وأكثر سبل نقل الحكايات التوارث الشفهي.. وبإيجاز فمن الممكن تحديد تاريخ الترجمة لدى أمة برجحان، وأما تحديد أول قارئ لِلُغةٍ أخرى من بني الأمة فأمر متعذر وليس متعسراً وحسب.. ثم قال: «ومن أوجه اللقاء تقارب الصفات بين (دزديمونة) وورد، وتجربة عطيل مع دزديمونه في أربع مراحل واضحة.. هذه المراحل كلٌّ مترابط متكامل في التجربتين معاً، لكن الفصل بين هذه المراحل وترتيبها إنما هو فصل نظري يساعد على الدراسة والتحليل [نقل ذلك من مقدمة جبرا للمآسي الكبرى]: أولاً لقاء ديك الجن بورد، وزواجه بها الذي يماثل معرفة عطيل دزديمونه وزواجه بها؛ فورد ودزديمونه تنتميان معاً إلى بيئتين مختلفتين.. وثانياً مرحلة الشك بكلتا المرأتين بعد عيشة هانئة، وحب صادق، وثالثاً انتهاء الشك بثورة الغضب والقتل، ورابعاً استفاقة الديك وعطيل من ثورة الغضب وظهور الحقيقة».
قال أبو عبدالرحمن: لا يعني كون الفصل بين المراحل نظرياً: أن صحة اللقاء المتعمَّد تحتاج إلى دليل من خارج؛ وإنما يعني المفارقة التي أسلفتها في الأسطورة والمسرحية، وأنه نظري لا يغيِّر من جوهر الأخذ الصحيح؛ فلعل الأستاذ فؤاد فهم نص جبرا إبراهيم فهماً خاطئاً.. والكشف عن اطلاع شكسبير على الأسطورة العربية ميسور جداً؛ لأنها مبدَّدة في التراث العربي الذي عرفه الغربيون [بالغين المعجمة] قبل مولد شكسبير بقرون، وترجموا منها مباشرة بعض الحكايات.. وفي تعبير الأستاذ عبدالمطلب صالح وهو يجعل الأسطورة سياقاً أُمَمِيَّاً ليس مصدره العرب وحدهم قال: «وتكاد حكاية ديك الجن وعطيل وأبو ريشة تشبه أسطورة ذلك الهولندي الطائر الذي فُجع بالحب أدمته [يريد أنها أدْمَتْ جَفْنيه؛ فمَجيئ (أدمته) من غير رابطة في السياق عُجْمَةٌ لا يتحمَّلُها البيان العربي] مَن وضع ثقته بها: أن يطوف في البحار والمحيطات يدور ويدور، لا يَطالُه الموت خالداً في العذاب إلى أن يجد المرأة التي تحبه؛ وعند ذالك تكون نهاية رحلته [دراسات أدبية مقارنة ص170 و171 نشر دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام 1994م].
قال أبو عبدالرحمن: تَفَشَّى اللحن عند كبار المثقفين والمذيعين والصحفيين؛ فوجدناهم يقولون: حوالَى - بفتح اللام وألف بعدها - الساعة الثامنة، وماءة رجل نُطْقاً لا رسماً، والعمروي (ينطقونها بالواو) وهم يريدون العَمْري بسكون الميم، ويَطاله؛ وهؤلاء جاءوا ببدعتين: إحداهما صيغة يطال تنزيلاً لها منزلة ينال؛ وإنما هي طال يطول في الفعل اللازم.. وأخراهما تعديتها وهي لا تتعَّدى إلا في المغالبة، والمطاوعة، أو تضمينها معنى لَمَسَهُ أو ناله.. وذِكْره عمر أبو ريشة في المقارنة وغيرِه من الشعراء المعاصرين (وهم لا ناقة لهم ولا جمل في موضوع الأسطورة) عبثٌ، وإنما ترجموها شعراً، وتحرُّوا التعبير الفني والاستلهام، ولم يتعمَّدوا إبداع نمطٍ أسطوري على غرارها.. وموجز القول: أن قصة ديك الجن والأشعار حولها أخبار أدباءٍ لا يُقوِّي بعضها بعضاً؛ لأنها متناقضة لا تستقيم على سياقٍ واحد، والشعر عادي يستطيع أن ينظم مثله كل حكواتي.. إلا أن القصة شنيعة مثيرة؛ لأنها مأساة؛ لهذا اهتم الأدب الحديث بهذه المأساة واتخذها رمزاً.. ولا يبعد أن ديك الجن قتل جارية لسبب ما؛ فنُسِجت حوله قصة البرنية، وأضيفت إليه قصة قديمة يتسلَّى بها الأعراب كما أشرتُ إلى ذلك آنفاً.. ومِن المفارقات العجيبة التأكيد «على أن ديك الجن كما ورد في كتاب الأغاني شاعر من ساكني حمص، ولم يبرح نواحي الشام، ولا وفد إلى العراق، ولا إلى غيره: (منتجعاً بشعره، ولا متصدياً لأحد)، وأما عطيل فهو قائد عسكري من أهالي البندقية في إيطاليا.. جاب أرضها ومياهها متصدياً لأعدائها، وزائراً أصقاعاً عدة[أي عديدة] من الأرض.. كما يفصل بين حياة الشخصين زمن طويل؛ فقد عاش ديك الجن قبل مؤلف مسرحية عطيل بنحو ثماني مئة سنة، وتوفي الأول عام 850م، وتوفي الثاني عام 1616م.. ووردت قصة الديك في الأصل خبراً لِقصة، ومن المفترض أنها حقيقية، ثم صاغتها مخيلة الأدباء وبلاغتهم فيما بعد، وأما حكاية عطيل فقد جاءت من حيث الأساس عملاً أدبياً بارعاً، وأهم ما يميز حياة ديك الجن وعطيل هو العمق المأساوي لتجربتهما الإنسانية».. انظر مجلة الفيصل، ص30، وقال ص23 عن دراسة تامر: «والدراسة الثانية تستند إلى الأولى بصورة كلية، ولا تُضيف شيئاً سوى تأكيد: أن ديك الجن سلموني وليس حمصياً دون تقديم دلائل وبينات واضحة».
قال أبو عبدالرحمن: ذكرتْ مصادر ترجمة ديك الجن أن مولد ديك الجن في حمص، وأن أسرته من سلمية، وقد أشرتُ كثيراً إلى أن مثل هذه الفروق لا تأثير لها؛ لأن شكسبيرَ يبني على أسطورة عربية ميِّتة مضطربة؛ فانتقى عِبرتها في الغَيرة العنيفة، وانتقى من مُخَيِّلته أبطالاً تَتوافق أو تقترب صفاتهم من صفات أبطال الأسطورة العربية الذين لهم وجود في مسرحيته، وأضاف أبطالاً وأوصافاً؛ ليكون العمل عملاً فنياً شكسبيرياً لا مجرَّد احتواء وانتساخ.. ثم نجد هذا التعتيم على الرغم من قوله: «وفي هذه المسرحية يتخذ الكاتب من محبة امرأة ومقتلها محوراً لبناء خطة درامية مأساوية محكمة الخيوط.. إن واقعية الأحداث ومصداقيتها في مسرحية عطيل وصفات الشخصيات فيها، وقدرة شكسبير على استخدام المصدر الأصلي للمادة المعالجة: تُعَدُّ انتصاراً فنياً عظيماً للأديب المسرحي».. هذا التعتيم في قوله: «استمد قصة عطيل من مجموعة قصصية إيطالية عنوانها «هيكاتوميثي» أي مئة حكاية للكاتب الإيطالي (جيرالدي تشنيتو)، ولم يستمدها من قصة حياة ديك الجن الحمصي؛ فقد نُشر هذا الكتاب في البندقية عام 1566م وترجمه إلى الفرنسية (غبرييل تشابيس) عام 1584م.. ومن المحتمل أن شكسبير قد عرف القصة من الكتاب الأصل، أو من خلال ترجمته بالفرنسية؛ إذ أنه لم توجد ترجمة إنكليزية لهذا الكتاب قبل عام 1753م».. وعندما استدل الدكتور نسيب بإمكان اطلاع شكسبير على حياة ديك الجن من خلال المصادر اللاتينية التي نقلت الآداب العربية إلى أوربا: عارضه بأن هذا النقل يحتاج إثباته إلى تحديد خاص أو عام، ثم علق بقوله: «والحق أن هذه القضية تظل رهن البحث والتقصي.. إن مصدر مادة عطيل شكسبير معروف في النقد الأدبي والمسرحي الإنجليزي، وهو ثابت علمياً.. والذي يجب النظر فيه عموماً هو كيفية انتقال كتب التراث العربي وما تحويه من كنوز أدبية عن طريق الترجمة وغيرها إلى أوربا، وعبر جزيرة صقلية والأندلس، والحرب مع الفرنجة، والأتراك العثمانيين.. إن الإجابة الأكثر تحديداً يجب أن تكون عن السؤال: كيف وصلت أخبار ديك الجن إلى الوسط الإيطالي، وكيف وصلت إلى فيلسوف فيرارا الأرستقراطي، والكاتب الإيطالي تشنيتو؟».. إلى آخر قوله الذي أسلفته في الحلقة التاسعة.
قال أبو عبدالرحمن: وكل هذا تكرار منزوع البركة، وهو خارجُ مَحَلِّ الخلاف؛ فمحل الخلاف أن شكسبير بنى إبداعَه على أسطورة عربية ساذَجة مضطربة ذات زيادة ونقص، واختلاف شاسعٍ بين نص الأسطورة ودلالة الشعر؛ فاختار سياقاً واحداً ليس فيه قصة الكوزين، وليست الأسطورة وقفاً على ديك الجن، بل هي أسطورة عربية قبل أن يكون لديك الجن وجود أدبي، والذي روى أسطورة ديك الجن كأبي الفرج الأصفهاني هو الذي روى الأسطورة قبل أن يكون لديك الجن وجود أدبي، وحسبنا أن مسرحية عُطيل بكل إشاراتها ولقاءاتها شاهدة على أن الأصل انتقاءٌ من أسطورة عربية، وأن شكسبير المثقَّف غير غائب عن أُمَّهات التراث العربي التي انتقلت في عهده وقبل عهده إلى العالَم الأوربي، وأما الدراسات الأدبية والثقافية والحضارية بين عطاء الأمم، والتأكيد على مصدر معيِّن للسابق اعتمده اللاحق فذلك خير وبركة يطلب الباحثُ الجادُّ المَزِيدَ منه، ولكن اليقين بأن أساس (مسرحية عطيل) أسطورة عربية لا يتوقَّف على أُمْنِيَّة المقارنة الواعدة، ولعل في هذا ما يكفي إلى أن يكتمل الموضوع في كتاب مستقلٍّ إن شاء الله، وإلى لقاء عاجل بحول الله وقوته، والله المستعان، وعليه الاتكال.