ما دامتْ (لذَّةُ العالِم بعلمه): فإنَّ طالب العلم الذي يسعى بكل جُهْدٍ ليكون عالِماً يجد أمامَه كثيراً من الرَّغَب، ويجد في جوانب سبيله كثيراً من الرَّهب.. وهما إما رُوحيان [اخترت الرفعَ على البدل] عُلْوِيَّان مُجَنِّحان، وإما جِسْمِيَّان شهوانيان مُسِفَّان؛ فمن الرَّغَب وهو مُدْلج في السُّرى.....
..... أن الوساوس وأحلام اليقظة لا مكان لها فيما هو فيه من لذَّة التحصيل العلمي، ولذة التحليق الفكري، ولذة التَّرطيب والتَّطريب الجمالي؛ ففي كل خطوة يزداد جُرْعَةً من تلك القِيم.. وَرَهَب الدَّرْب كثير: منه إشفاقُه أن يبتلعه بُعْدُ الصِّيت في علوم الشريعة؛ فلا يكون عَمَلُه مردوداً عليه وحسب، بل يُعَذَّب به؛ لأنه لم يُرِدْ به وجْه الله.. ويلزمه أن يكون مَن يُجَلْجِلُ عندهم (بُعْدُ الصِّيت) شركاءَ لله في مُعْتَقَده.. ومنها إشفاقه في العلوم الدنيوية أن يكون غيرَ صادقٍ مع نفسه، بل دَأْبه أن يطلب التَّميُّز بالحق وبالباطل؛ بقدرته على فَلْج الخصوم، ودقة حيلته على جعْله تفكيرَ المُتَلقِّي في عماءِ الحَيْرة.. وليس كلُّ مَن هدم مُسلَّمةً عند أهل مصر أو عصر يكون بهذه الصفة؛ فكم من فكرٍ نيِّر مثقل بالعلم وشَرَف القصد حَرَّر العقل من تراكمات العصور.. وذلك الرَّهب شيئ في قلب طالب العلم لا يعلمه إلا الله، ثم مَن أذن لهم بإحصاء سِرِّه وعَلَنه من الملائكة الكرام؛ فإن وقع في هذا الداء مرة واحدة وقع طريح الحسرة والندم؛ فلا ينجو حتى يُعْلِنَ اعترافَه وتراجُعه.. ومن الرَّغَب حِرْصُه على استيعاب العلم بسرعة؛ وهذا محال، ولكنه كلما ازداد عِلْمُه حصل له فَرَحٌ ولذة.. ومن الرَّغب والرَّهب معاً أنه في لذة من حضورِ شواهدِ علمه، وفي تأزُّمٍ وخوف من النِّسيان وقت الحاجة؛ فالتمس العلماء من تجارِبهم ما يُعينهم على الحفظ ودوامه؛ فمنهم من أفرط في أكل اللُّبان (يُسمَّى الشِّحري، والذَّكر، وهو يتحلَّل ولا يدوم مضغه) كالإمام ابن حزم رحمه الله تعالى الذي أصابه البرص من ذلك الإفراط، والإمام أبوعبدالله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى قال لورَّاقِه: «لا أعلم شيئاً أنفعَ للحفظ من نَهْمة الرجل، ومُداومةِ النظر»، وروى الذهبي عن محمد بن أبي حاتِم قوله: «بلغني أن أبا عبدالله شرب دواءً للحفظ يقال له (بَلاذُر)، وأن رجلاً سأله عن دواء الحفظ، فقال كلمته السابقة [سير أعلام النبلاء 2/406]، وقد ذكر ابن البيطار في كتابه الجامع لمفردات الأدوية 1/154-155 فائدة البَلاذُر في الحفظ، وحذَّر مِن أعراضه.. واستنتج من ذلك شيخي الإمام أبوزاهد عبدالفتاح أبوغُدَّة رحمه الله تعالى: أن البخاري كان يحفظ بالنظر، وهذه منحة نادرة يخص الله بها بعضَ عباده، ولا تكون لكل ناظر.
قال أبوعبدالرحمن: كلا ليس المراد مُجَرَّد النظر، وإنما المراد مداومة نظرٍ مع نهمة.. أي مع جَشع محمود في التهام العلم التهاماً يصدر عن محبة وشغف.. ومداومة النظر ليست هي إمرارُ نظرة صامتة على النص في جلسة واحدة؛ وإنما هي مداومة نظرة متكررة في الأزمان المتقاربة والمتباعدة، وهي مداومة نظر تفهُّمٍ وإحصاء للعلاقات والفروق بين النصوص، وكلما احتاج للنص راجعه حتى يرسخ في ذهنه.. والحفظ ههنا يكون للمعاني في عمومها، وقد يغيب بعض تفاصيلها، وواسع الثقافة والعلم لا يُحْرَم من ترسُّب كثير من المعاني والأفكار وبعض الجُـمَلِ في ذهنه، فإن كان مُتخصِّصاً لعلم مُعيَّن فسيكون حفظه أكثر، ولا شيئ يبقى في الذهن مدى العمر غيرُ القرآن الكريم على سرعة تفَلُّته إذا أجاد القارئ حفظه، وحرص على ختمه في السنة اثنتي عشرة مرة على الأقل مع التلاوة منه في النوافل؛ لاستذكار ما يرى ضرورةَ استحضاره.. وعندما كنتُ ساكناً شرقيَّ شارع جرير منذ أكثر من ثلاثة عقود أُشير لي إلى شيبة حمد يُهادَى في الصف الأول من المسجد - وأظن أنه يقال له ابن فوزان - أُصيب بمرض فأقعده، وفقد ذاكرته، ثم شفاه الله تلقائياً؛ فما كان ينسى من كلام الله حرفاً.. والتَّعنِّي لحفظ الألفاظ مَشْغَلة عن التوسع في العلم إلا ما التقطته الذاكرة، وما هو ضروري جداً من الشواهد على مسألتك التي تريدها.. وأما حفظ القرآن والصحيح من النصوص الشرعية - وإن لم يستوعب متونها المُتَفرِّقة - فهو عبادة ونور وجه، والاستيعاب بعد ذلك سهل جداً بعد وجود وسائل العصر الحديثة في تحضير العلم؛ وإنما قلَق طالب العلم من أمر لابد منه في العادة إلا أن يشاء الله، وهو ضعف الذاكرة في استحضار تفاصيل المعاني، وقد كثر اليوم فقد الذاكرة (الزهايمر) في كثير من الناس وهم غير حُفَّاظ.
لا أَرْضَى للإمام أبوجعفر محمد بن جرير بالقياس على الأدنى
الإمام أبوجعفر محمد بن جرير الطبري إمام تميَّز من بين أفراد عصره بسعة علمه، وتَدفُّق فكره، ومتانة دينه وزهده.. وهو من الأعلام المُتميِّزين على مدى تاريخنا الإسلامي، ولقد سأله سائل عن نسبه؛ فقال: (محمد بن جرير)، فقال السائل: (زدنا في النسب)، فأنشد قول رؤبة بن العَجَّاج:
قد رفع العجَّاجُ ذكري فادْعُني
باسمي إذا الأنساب طالتْ يَكْفِني
معجم الأدباء 6/2445، وحظُّ أبي جعفر من هذا القياس دون قدره ألف ألف مرة، فرؤبة إنما فَخُر بأبيه العجاج - وهو ذو نسب - في الشعر؛ فأين هذا من بحر ابن جرير الزاخر في نفائس العلم ودقائق الفكر، وحظ أبي جعفر أنه يعتزي إلى أب وإن كان أبو جعفر هو الذي رفع ذكر أبيه - على أن الطبريين ثريِّون برجال العلم -، وأبلغ من ذلك قول أبي الفرج عبدالرحمن ابن الجوزي [508-597هـ] رحمه الله تعالى: «إن الشيخ الكبير يحمد جَنَى ما غرسه في الشباب من الجد في طلب العلم»، وعَبَّر عن لذته بالعلم - مقارناً نفسه بعشيرته التي أنفق أفرادُها أعمارَهم في اكتساب الدنيا - بقوله: «فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمتُ عليه، ثم تأملتُ حالي؛ فإذا عيشي في الدنيا أجودُ من عيشهم، وجاهي عند الناس أعظم من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يُقوَّم».
قال أبوعبدالرحمن: جمال السيرة، وكون العالِم شمعة مُضيئة، ومحبَّةُ الناس، وتدفُّق الفكر: هو الحسب النسيب على الحقيقة، وهو الذخر يومَ لا أنساب بينهم ولا يتساءلون.
أفاويق ظاهرية
قال أبومحمد ابن حزم رحمه الله تعالى عن الشقراء من الجنس اللطيف:
يعيبونها عندي بشقرة شعرها
فقلت لهم هذا الذي زانها عندي
يعيبون لون النورِ والتِّبرِ ضَلَّةً
لِرأْي جهولٍ في الغواية ممتدِّ
وهل عاب لون النرجس الغض عائب
ولون النجوم الزاهرات على البعدِ
وأبعد خلق الله من كل حكمة
مفضِّل جُرمٍ فاحم اللون مسودِّ
به وُصِفتْ ألوانُ أهل جهنم
ولِبْسةُ باكٍ مثكل الأهل محتدِّ
ومذ لاحت الرايات سوداً تيقَّنتْ
نفوسُ الورى أن لا سبيل إلى الرشدِ
قال أبوعبدالرحمن: في هذا جمال بمقياس حسن تعليلٍ وإفساد تعليلٍ وفْق الصنعة البديعية، ولكن فيه وَعْيُ لوذعيٍّ استوعب التاريخ، وعرف تَقلُّباته، وعلم من البواعث والموانع معنى (التاريخ يعيد نفسه)، فآثار أبي محمد تستشفُّ منها صحةَ الحدس بسقوط الأندلس، وهيضةِ الأعداء من أنحاء أوربا، وانضواءِ فِرَق الباطنية لمساندة الأعداء؛ وذلك في إشارته إلى (الرايات السود) تكراراً لما وقع بعد دولة بني أمية.. وقد تجرَّع أبومحمد الغُصص في عهود التجزئة على أيدي ملوك الطوائف الأقزام، ومنهم من حالف الأعداء وصاهرهم وعاونهم؛ فأرسل عليهم منجنيقَه، وحذَّر منهم ومن العُقبى بعدهم، وصبر على الأذى، وقام في بني مِلَّته أكرمَ موقف رحمه الله تعالى.. ومن إبداع أبي محمد يصف نفسه وما أصابه من ظلم، وهدم بيوت، وإحراقِ كتب، وتحوُّلٍ من بلد إلى بلد مع ضعف المناصر في قُطْرٍ خَنقه التقليد، ثم انتشر فيه الظلم والانحلال:
ولَّى فولَّى جميلُ الصبر يَتْبعهُ
وصرَّحَ الدمعُ ما تخفيه أضلعُه
جسمٌ ملول وقلب آلِفٌ فإذا
حل الفراق عليه فهو موجعه
لم يستقر به دار ولا وطن
ولا تدفأ منه قط مضجعه
كأنما صِيغ من رهو السحاب فما
تزال ريح إلى الآفاق تدفعه
كأنما هو توحيد تضيق به
نفس الكفور فتأبى حين تودعه
أو كوكب قاطع في الأُفق منتقل
فالسير يغريه حيناً ويطلعه
أظنه لو جَزَتْه أو تساعِده
ألفتْ عليه انهمالَ الدمع يتبعه
قال أبوعبدالرحمن: بقي لأبي محمد ما نرجو له عند ربه مِن المثوبة برحمته وعفوه، وله من الأجيال دموعٌ أبرُّ وأزكى.. وظنَّ الشيخ عبدالحق محقق (مختصر طوق الحمامة) أن البيت الأخير مضطرب أو متداخل، وما هو كذلك (والمقطوعةُ ضمن قصيدة لم يوردها كاملة)، بل المراد أن مجتمعه يجب عليه أن يذري عليه الدمع إن عجز عن مساعدته، فلا يكون كالكفور تضيق نفسُه بالتوحيد، والبيتان الثالث والرابع من آيات الجمال الفني، والرهو يصح إطلاقه على السحاب السريعة في سيرها بعد أن تُفرغ ماءها؛ فتكون جهاماً (وهو عند العامة النَّفيض)؛ لأن السرعة من معاني الرَّهوْ، ولكنَّ المُرادَ ههنا المعنى الآخر وهو السكون حينما تتكون السحاب وتظل ثابتة؛ فتأتي الرياح بإذن الله لتدفعها بعد إلقاحها حتى تكون داجنة غزيرة المطر، وما كتب أبو محمد غُررَه إلا في تلك الأزمات.. بيض الله وجه أبي محمد في الآخرة؛ إذ لَمْ يَملَّ منه مضجعه، وإذْ أمطرهم من بحر علمه ما هو موقظ النائم، مُـخْرِس النسمات الأخرى التي لا وزن لها كما يقال في إحصاء السكان: (سكان ذلك القطر ثلاثون مليون نسمة)، وفي النسمات العبقري والتقي والمجنون والطفل.. إلخ؛ فكل واحد نسمة.. ومن أُلْفَةِ أبي محمد ووفائه أنه ألَّف رسالته عن فضل الأندلس (واسمها الميزان في المفاضلة بين الأندلس والقيروان)، فأثلج صدور أبناء قُطْره بما أظهره من محاسنهم وعلومهم مع معاناته النَّكدَ والكَبَد من عوامِّهم وأمرائهم، وله في غُصصِ عصره فرائد مليحة كقوله:
وخذني عصا موسى وهات جميعهمْ
ولو أنهم حيَّاتُ ضالٍ نضائضُ
يُذِيعون في عيبي عجائبَ جمة
وقد يُتمنَّى الليث والليث رابضُ
ويرجون ما لا يبلغون كمثل ما
يُرجِّي مُحالاً في الإمام الروافضُ
ولو جَلَدي في كل قلب ومهجةٍ
لما أثَّرتْ فيها العيونُ المرائضُ
أبتْ عن دنيِّ الوصف ضربةَ لازبٍ
كما أبتِ الفعلَ الحروفُ الخوافضُ
ورأيي له في كل ما غاب مسلك
كما تَسْلُك الجسمَ العروقُ النوابضُ
يُبين مدبَّ النمل في غير مشكل
ويُسْتر عنهم لِلْفُيولِ المرابضُ
قال أبو عبدالرحمن: البيت الأخير يكون ضبطه الصحيح بضم الياء المثناة التحتية في (يُبين)، وليست (غير مشكل) بمعنى من غير إشكال.. أي أنه سهل يسير عنده إخراج المشكل بسهولة، بل المعنى أن السهل غير المشكل عند المُقَلِّدة أهل بلده فيه معانٍ خفية كمَدبِّ النملِ يُظهرها دِقَّة استنباطه، وهذا كثير في درر أبي محمد، ولكنْ عنده جمود على الحرفية يُنَغِّض المتعة بهذه الفضيلة.. والفيول جمع فيل، فالمُقلِّدة في قطره لا يرون الفيول في مرابضها كناية عن تعطيلهم الظفكر وعجزهم عن الاستنباط، وَجَلَدُ أبي محمد أن عزائم الأمور نَفضت عنه غضارة الحضارة عندما كان في بيت وزارة مُتْرَفة، فلم تأسره العيون المسبلة كأنها مريضة الأجفان، وإباية الحروف دخول الأفعال (وهي المشبَّه، والمُشَّبهُ به ترفُّعه عن دنيِّ الوصف) صورة جميلة جداً.. إلا أن القافية أحوجتْه إلى التقديم والتأخير، والصواب أن الأفعال هي التي تأبىَ دخولَ الحروف لا العكس؛ فإذا قلتَ مثلاً: (مَللْتُ التمثيلَ بضربَ واضْرِبْ ويضربُ): لم يتغير بناء الماضي والأمر، ولا إعرابُ المضارع المُتَجرِّد من العوامل؛ وهذه الأفعال أبت دخول الحروف؛ لأنه لا عَمَلَ للحروف فيها؛ فما دخل عليه الحرف مُقَدَّر مثلُ: (مملتُ التمثيلَ بقولك، أو مللت التمثيل بفعل)، وإلى لقاء، والله المستعان، وعليه الاتكال.