بسم الله الرحمن الرحيم
* العاقل هو الذي ينضبط، والعقل هو الانضباط، والمرجع اللغوي إلى عقال البعير الذي يمنعه من الانفلات؛ لأن العقل يحجز الإنسانَ السَّوِيَّ عن تحكُّم الإرادة، ويكون الانضباط للرغبة؛
فإن كان ما يرغب فيه شريفاً في نظر الأخلاق فالانضباط له هو العقل الصحيح، وإن كان ما يرغب فيه دنيئاً أو يُضَيِّع ما هو أولى منه فالانضباط له هو الأنانية والشهوانية العمياء.. والأنانية ليست عقلاً، والعقل هو الذي يعدل بين الغرائز المتناحِرة، وليس الأنانيُّ عاقلاً في الشرائع وعِلْمَيْ الأخلاق والمنطق.. والانضباط للرهبة إن كان ما يُرهب منه ليس دونه مَلْجأ أو مَعاذٌ كسخط الله، فالانضباط له هو العقل الصحيح، وإن كان ما يرهب منه ليس أهلاً للرهبة: إما لأنه إسخاط لِمَن هو أولى بالرهبة، وإما لأنه شرٌّ يُسْتَدْفع بالتضحية فالانضباط له ليس عقلاً وإنما هو جبن وعجز.
** العقل هو الانضباط، حيث ينبغي الانضباط والذي يُـحدِّد ما ينبغي هو منطق العقل ومبدأُ الضرورة والحتمية.. وليس الذي ينضبط هو الألمعي اللوذعي الموهوب؛ لأن الموهبة ذكاء ونباهة وفطنة وإبداع وابتكار.. إنها كل شيئ غير الانضباط؛ لأنها موهبة عبقرية، وهي وسيلة سريعة لتحقيق الإرادة، فإن كان المراد باطلاً وشراً وقبحاً فالموهبة نقمة لا نِعمة.. فإن قلت: هاتِ المثال؟؟.. قلت: هذا (بودلير) غير منضبط، ولكنه موهوب، وفي السواد الأعظم ألْفُ منضبط ولكنهم غير موهوبين ولا غِيبة لمجهول.
*** الذين يشاركون الله في التشريع: عليهم أولاً أن يخلقوا بشراً سوياً، وأن ينفخوا فيه الروح، وأن يركِّبوا غرائزه، وأن يَعْلَموا وساوسة.. وعليهم أن تكون لهم المشيئة والإرادة والعلم المطلق والإحاطة الشاملة؛ فإذا فعلوا ذلك فلا عليهم أن يأتوا بشرع جديد.. أما أن يأتوا إلى خلق الله سبحانه وهم أفراد من ذلك الخلق، ثم يشرعوا لخلق الله غير شرع الله: فذلك هو الظلم، وهو تحميل النفس ما لا تطيق.. إن الذين يقترحون على الله، ويعترضون بقولهم: (لماذا كان الشرع في هذه المسألة هكذا، ولم يكن هكذا؟؟): جوابهم من الطبيعة التي هي خَلْقُ مُنَزِّلِ الشريعة؛ فيقال لهم: لماذا كانت لأحدكم عينان ولم تكن له ثلاث أو أربع، ولماذا لا تكون له عين في قفاه، ولماذا لا يكون للحمار عقل، ولماذا لا يكون الرمل شيئاً يؤكل.. إلخ؟؟!.. إن قضاء الله الشرعي هو صِنْوُ قضائه الكوني.
* التمرد والرفض من العبارات اللغوية التي جُعِلَت معايير؛ وإنما هي موضوع للمعايير؛ لأنهما في نفسيهما ليسا هما الحقيقة أو الخرافة؛ فالشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى تمرَّد على الجاهلية الثانية، ورفضها، وكسر طواغيتها بزعامةِ القادة الأخيار من آل سعود.. كما أن هدى شعراوي وشيخها قاسم أمين وأشياعهما تمردوا على الفضيلة ورفضوها؛ وإذن فليس الرفض والتمرد والتجاوز والحرية والمساواة وأمثال ذلك مفردات معيارية كالحق والخير والجمال، بل تلك المُفردات موضوع للمعايير؛ فالمساواة تكون ظلماً وبخساً إذا كانت عن غير تكافؤ، وتكون عدلاً وإنصافاً مع التكافؤ.. وتلك العبارات ليست دليلاً على العبقرية والعقل؛ لأن الذي يتمرد على القيم ويرفض الجانب المشرق من التراث جاهل وَقَّاحٌ، وليس عبقرياً، والتمرُّد مثلاً على كل شيئ، والرفض لكل شيئ وَهْمٌ لا وجود له؛ لأن للهِ في نواميس كونه قوانين لا تعبأ بتمرد المتمردين، ولا برفضِ الرافضين، ولأن في قدرة الله حتمياتٌ تسخر بمن لا يزن عند الله جناح بعوضة وإن طار بجناحي إبليس، والمتمرد على كل شيئ - لو استطعنا تصوُّر ذلك - لا يستطيع التمرد على نفسه.
** الحكم العادل يكون بمعقوليته، وبتعميم تطبيقه.. وليس القانون الوضعي معقولاً في كل الأمور وإن صح أنه مشاع لا فروق في تطبيقه؛ فذلك من باب قول العوام: (الظلم بالسوية عدل في الرعية)، ويكفي في الحكم بظلمِ القانون أنه يشارك رب العباد في التشريع.. وجمهرة القانونيين تؤمن بقاعدة: (أن العبرة بالمقاصد)؛ وبناء على هذا فلا يكفي في قبول القانون أن تكون بعض نتائجه وَفْق شرع الله؛ لأن العبرة بتحرِّي مراد الله في البداية، قصداً لا مُصادفةً.. والقانونيون لا يتحرَّون مراد الله في البداية؛ لأنهم لا يستنطقون نصوص الشرع بلغة العرب.. وأصول القانون وإن اتحدت في بعض نتائجها مع الشرع فهي أصولٌ تُنْتِج الحيف؛ بدليل أن الأصل في القانون أنه يقوم على رضا المتعاقِدِين ولا يراعي رضا الله؛ فالربا حرام وإن رضي به المتعاقدون، والبيع حلال؛ لأن عليه رضا الله ومصلحة العباد والبلاد.. ويقوم القانون على فردية مُتغْطرسة هي الحُرِّية إلا من الشهوات، وهي حرية تُهْدِرُ كرامة الفرد، وتقضي على مصالح الأمة.. ولقد تفلسف متفلسفون؛ فقيدوا حرية الفرد بأن لا تمس مصلحة غيره، ولكن هذا الشرط مستحيل في أكثر حقوق الفرد قانوناً؛ فالإباحية مثلاً وإن كانت تراضياً بين اثنين، ولا تَتَدخل في حريات الآخرين: تجلب سخط الله، وتذهب بريح الأمة التي من شرط وجودها المُعْتدِّ به أن تحرص على سلامة ناشئتها.
*** عَرَّف الفقهاء القضاء بأنه الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام، وهذا أحسن ما رأيته في تعريف القضاء الشرعي، وأما الذين عرَّفوه بأنه (فصل الخصومات، وقطع المنازعات) فقد عرَّفوه بلازمه.. ولا مراء أن تقلُّدَه من أشرف المناصب، فهو وظيفة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.. قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [سورة المائدة /44]، وقال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [سورة ص /26]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [سورة النساء /105].. والفقه في القضاء مما امتنَّ الله به على نبيه داود في قوله تعالى: {وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [سورة ص /20].. قال بعض المفسرين: إنه علم القضاء.. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حَسَد إلا في اثنتين)، ثم ذكر في إحداهما رجلاً آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعمل بها، وورد الحديث في فضل من يحكمون للمسلمين كحكمهم لأنفسهم، وفي الحديث الآخر: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة)، ويشهد لصحة معنى هذا الحديث قوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة المائدة/ 42]، وقوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [سورة الأعراف/29].. وأبرز دليل على شرف هذا المنصب أنه ضرورة حتمية لضبط النظام؛ لأن الخصومة من لوازم الطبيعة البشرية.. قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [سورة البقرة/251].
قال أبوعبدالرحمن: الحقيقة التاريخية أن استقامة القضاء من مظاهر قوة الدولة، ومن الإنجازات الحضارية في مختلف الآماد، وقد نُـمِيَ إلى علم (تشرشل) ظهور الفساد في الجهازين الإداري والسياسي في بريطانيا؛ فاستعلم عن الجهاز القضائي؛ فقيل له: (إنه جيد جداً) فقال: (لا خوف على بريطانيا).. انظر القضاء والقضاة ص8 لمحمد شهير أرسلان.. وقال (فانسان أوريول) رئيس فرنسا الأسبق: (يوم يفقد المواطنون ثقتهم بالعدالة تتعرض الدولة لأشد الأخطار) المصدر السابق ص33.. وقد يكون هذا بِمُسَلَّمات أمة لا تؤمن بالله ولا تحكم بشرعه، وقد يكون هذا أيضاً موضع استدراك من المُسْلِم.. وجوابي: أن القوانين الوضعية حدَّدت أحكاماً تَواضَع عليها المجتمع؛ فمساواة الناس في الحكم تحصل بها العدالة في التطبيق والرِّضا؛ وإنما المَدْخل على هذه القوانين في الإنشاء والتأسيس، بينما القضاء الشرعي الكفيل بجلب المصالح ودرء المفاسد: هو أن يكون وفق أمر الله وتشريعه أولاً، ثم الأمانة في تطبيقه، والمساواة فيه؛ فهو عدل من الله؛ لأن الله يحكم بالعدل، وتطبيقه بأمانة عدالة من القضاة.. وإن لتطبيق القضاء وفق التشريع الإسلامي خصائص لا يستقيم أي قضاء بغيرها، وهي لن توجد في غير القضاء الشرعي.. وأما القانون الوضعي فيحفظ أمْناً دنيوياً لمجتمع تغلب عليه الإباحية وعدمِيَّة الحياة، وحريَّة الملتزم؛ فتبقى مُتماسكة تماسك بهيمة الأنعام في فلاة خصيبة تُحافظ عليها أعينُ رعاةٍ ساهرة؛ فإن عُطِّلتْ العقوبات ذهب النعيم الدنيويُّ كلُّه.. وأما السعادة الكاملة الدائمة فهي حياة كريمة في الدنيا تكون مزرعةً لنعيم أبدي في الآخرة.. وعلى الرغم من النعيم الدنيوي للأمة الإباحية العدميَّة فليست تلك الأمة في مأمن من عقوبات من الله في الدنيا مفاجئة، وما أجمل الحديث الطويل الذي أورده الإمام أحمد في مسنده عن مقتِ اللهِ أهلَ الأرض إلا بقايا من أهل الكتاب.
* كل ما نقرأه في شرائع الله وأخباره عن بعض الواقع المُغَيَّب فإنما يتعلق بدنيانا وآخرتنا منذ قَدَّر الله خلق السموات والأرض قبل خلقهما بخمسين ألف سنة، وقدَّر ما هو كائن إلى يوم القيامة إلى إدخال المكلفين منازلهم.. ولكن مخلوقاته قبل ذلك لا بداية لها إلا بكونه الأول لا شيئ قبله ولا شيئ معه ابتداء، وأن فساد هذا الكون، واستقرار المكلفين في منازلهم هو نهاية كوننا، وليس هو نهاية فعل الله وخلقه، فالله هو الآخر لا شيئ بعده.. ومعنى أنه الآخر أنه الحي الباقي الدائم القيوم الفعَّال لما يريد، وإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله، والله المستعان وعليه الاتكال.