تعريفُ الجمال طويلُ الذيول يُعْطي كلَّ جزئيةٍ حقَّها من التعريف، ثم تكون النتيجةُ التصنيفَ كصفات المُؤَثِّر الخارجي الذي حصل عنه الإحساس الجمالي، وتصنيفَ ذوي الإحساس: من جهة الدين والأخلاق، ونوعِ الثقافة أو سَعَتها، وقُوى الفِكْر، وحال النفس طمأنينة أو اضطراباً..
إلخ، ثم تأخذ النموذجَ الأعلى من التجرِبة البشرية تربيةً ثقافيةً وفكرية ورهافةَ حِسٍّ، مع استحضار معيار الكمال والجلال؛ فتجعل إحساسهم الجماليَّ هو المَثَلَ الأعلى للجمال الأسْمَى.. وتبدأ النظرية الجمالية في تأصيل العلاقة بين الجمال الطبيعي والجمال الفني مُتَخلِّصةً من رواسب (محاكاة الطبيعة) الضيِّقة الجائرة المُلْغِيةِ أعاجيبَ الموهبة الخياليةِ؛ لأن محاكاة الطبيعة حِرْفَةٌ ومهارة كرسْمِك بيتاً شهيراً في قريتك؛ فيكون رسمُك طبقاً للبيت الذي شاهدته؛ فذلك رسم فوتوغرافي ولكن بحرفتك ومهارتك.. وكذلك تقليدك صوت مُقْرئ أو مطرب، فلا يجد السامع فرقاً بين صوتك وصوت مَن قلَّدته؛ فذلك موهبةُ تقليد مِن مواهب الحرفة والمهارة.. وتدخل المحاكاة في محاكاة العمل الفني؛ فترسم لوحةَ فنانٍ رسماً مطابقاً.. والعلاقةُ بين العمل الفني وظواهر الطبيعة أعمق من ذلك، ولا يُجَرَّدُ فيها الفنانُ من الإبداع.. ومفتاحُ ذلك أن الطبيعة أقدمُ من العمل الفنيِّ في تَصَوُّرِ الجمال والقبح، ولا عَمَلَ فنيَّ [نَصْبُ فنيَّ هو أرجح احتمالات الإعراب؛ لأنه معطوف على الاسم (عَمَلَ) الذي دخلت عليه اللام النافية للجنس؛ فيأخذ حكمه] إلا من خلال الطبيعة، ولكنَّ ذلك بتركيب الخيال الجوَّاب لا بمهارة الحِرفة التقليدية؛ فمن ذلك الفنُّ الواقعي حين ترسم منظر السماء مُلَبَّدةً بالغيوم، وفيها سحابة داكنة ممطرة، وتحتها شعاب ووهاد وطُرقٌ ورمال وأشجار.. إلخ.. وهو ههنا لا يرسم مشهداً بعينه قد رآه، ولا يجده المُتَلَقِّي فيما شاهده، ولكنَّ هذا التركيبَ ليس من المحال أن يكون في بقعة من بقاع العالم، وليس من المحال أن يكون مستقبلاً في المكان الذي رسم فيه الفنان لوحته.. وهكذا الرواية برسم مشاهدها الزمانية والمكانية، وأبطالها، ومادتها الأدبية حواراً ووصفاً: ليست تعني واقعاً تلقَّاه الراوي برسم فوتوغرافي للمَشاهِدِ، وحفظاً لأدبيات الرواية؛ ولكنه فنُّ واقعي؛ لأنه من المحتمل أنه وقع أو سيقع؛ ولأنَّ فيه مماثلةً لِـمَشاهِدَ وأدبياتٍ واقعيةٍ فِعْلاً.. ومن ذلك إبداع الخيال في التركيب من الطبيعة يكون عملاً فنياً يُعْلَم يقيناً أنه ليس في مشاهدة البشر، ولا يصل إليه إلا خيالٌ ثريٌّ، ولا يستطيع العقلُ أن ينفيَ أو يُـحِيل كينونته في الوجود المُغيَّب عن البشر.. ومنه إبداعُ الخيال في التركيب من الطبيعة مِمَّا يُعْلَم يقيناً أنه محال الوجود كالفنون العجئبية، وفنون اللامعقول.
قال أبو عبدالرحمن: تعريف الجمال (مُمْتَنِع) بالنسبة للكسول المُسْتسلمِ لشتاتِ معاني المُفْردات اللغوية التي في كل واحد منها معنى مُرادفٌ معنى الجمال.. والتعريف سهلٌ غيرُ ممتنع على الجادِّ الصبور المُتَأنيِّ، وصِفَتُه أنه يُنسِّق المُفْردات الاصطلاحية ومرادفاتها ترادفَ مطابقة جزئية، وَيَسْتيقظ فِكْرُه عند تَلَقِّيهِ معاني أضدادها ومرادفات أضدادها ترادفَ مطابقةِ أو جزئية مع ضرب الأمثلة،وتجسيد الفوارق وأوجه الشبه؛ وهذا يُكلِّف رَصْدَ كلِّ الألفاظ الدائرة في دنيا الأدب خاصة، ودنيا الفنون الجميلة بصفة عامة.. وهناك مصطلحات لا تُحقِّق مفهوماً جمالياً إلا عن طريق التشبيه كالحلاوة؛ فليس في الفن ما يتصف بحلاوةٍ تُذاق بطرف اللسان، وإنما تجوَّزوا في التعبير على التشبيه.. أي تشبيه أثر الفن الجميل في النفس بأثر ما كان مذاقُه حلواً، وقل مثل ذلك عن البرودة والعذوبة.. وكثير مما ورد في قائمة (ريمون بولان) قريب من هذا؛ فقد أورد له الدكتور ثروت عكاشة في موسوعته [ص484-485، وانظر (علم الجمال/ نشأته وتطوُّره) لأميرة مطر طبع عام 1984م، والمعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 2/185-186] تراكمَ مفرداتٍ في تعريف (القُبح)، وأدرج في سياقها معاني الشرِّ (العقل العملي)، والخطإ (معيار الحق)، وتلك المفردات هي (بَشِعٌ، ومُرْعِب، ومُتَطَرِفٌ، وغيرُ مُعْتدلٍ، ومتجاوزٌ الحدَّ، وتافه، ومُتَحذْلِق، وفاقدٌ الخيالَ عاجزٌ عن الإبداع، وفخم، ومُنتفخ، وسطحي، ومُسَطَّحٌ، وعاديٌّ، ودون المُتوَسِّط، وبين بين، وَزَرِيٌّ، ومُنمَّق، ومُضْطرِب، ومُشوَّه، وبلا شكلٍ مُحدَّد، ووحشيٌّ، وغير مُتناسب، وغريب، وغير مألوف، وشائه [هي في سياق مُشَوَّه التي مَرَّت آنفاً]، وباعث على الاستهزاء، ومُضحك، وثقيل [لعلها بمعنى نابٍ، أو مُسْتغْرَب.. وعلى أي حالٍ فالثِّقل مجاز عن عدم تحمُّل الوجدان النفسي رؤيتَه أو الاستماع إليه]، وباهتٌ، وغثٌّ، وَهَشٌّ، ومُتَصَنَّعٌ، وشنيع، ومَعِيب».
قال أبو عبدالرحمن: على الرُّغم من أن هذه القائمة قابلةٌ الضغطَ والاختصارَ: فإنَّ ناثر هذه المفردات لم يُحسن إلى القارئ بتقديمِ تناسقٍ، وتحليلٍ، ورَبْطِ المُؤتلف بالعلاقات بين المعاني، وربطِ المختلِف بالفوارق؛ ليتميَّز للمتلقِّي هُوِيَّةُ القبح، وهُوِيَّة الشرِّ، وهُوِيَّة الحق.. وبعد هذا فما الداعي للخلط بين مفردات تتناول ثلاثة معايير مُختلفة؟.. وليس عندي فراغ في هذه العُجالة من أجل تحليل مفردات (ريمون بولان) وردِّها إلى معانيها الاصطلاحية، ولعل ذلك يكون في المستقبل إن شاء الله، وحسبي ههنا أن معنى (القُبْح) في اصطلاح (الاستاطيقا) - وهي مُسَلَّمٌ بها في الاصطلاح العربي - مُحدَّدٌ جداً بما هو نقيض (الجمال) الذي هو لذة وسرور وبهجة (وهكذا كلُّ ما يرادف ذلك): تأتَّى من موجود خارجيٍّ بالنظر أو السماع لا غير؛ فالنظرية الجمالية لها هذا المقدار مِن نقيض معنى الجمال سماعاً أو رؤية، ويبقى في مادة القاف والباء الموحَّدة من تحت والحاء المهلمة (القبح) معانٍ أخرى تُحْمَل معانيها على دلالتها غيرِ المناقضةِ معنى الجمال؛ لأن القبح من جهات أُخَرَ نقيض (الحُسْنِ)؛ فلا تتصور معاني القبح الاصطلاحية إلا بعد العلم بالمعاني الجامعة للحسن، وهي باستقرائي ثلاثة لا رابع لها: المعنى الجامع الأول بمعيار الحق، وهو مجازي قليل؛ فالخطأُ مُسْتَقْبَحٌ مجازاً؛ لأن النفس ترتاح وتستقرُّ إذا كان الصوابُ وِجْدانَـها، وهكذا كل ما خالف معيار الحق فهو خطأ مَعِيب يوصف بالقبح تجوُّزاً؛ لأن النفس لا تَسْتَقِرُّ على وِجدانه كما ترتاح وتُسَرُّ بالجميل من وِجدانها.. والمعنى الثاني الجامع بمعيار الخير والشر اللذين مصدرهما الدين والعقل (العقل العَمَلي)؛ فهذا ألصق بالنظرية الجمالية؛ لأن الجلال والكمال المانعَ من الذم والعيب والمهالكَ، الجالبَ المدح والسلامة: هو الشرط للجمال الأسمى كما بينت ذلك آنفاً.. والمعنى الثالث الجامعُ كلَّ ما هو نقيضُ الحُسْن بمعايير الوجود الثلاثة مجتمعةً (الحق، والخير، والجمال)؛ فالحسن في معناه الحقيقي هو الإتقان وَفْق مُراد صاحب الإحسان بمعيار الحق..ألا ترى أن الفُويسقة الفأرة قبيحة المَنظر، ولكنها إتقانٌ وَفْق مرادِ خالقها من الحكمة.. هي قبيحة المنظر ويشتد قبحها بقبح صوتها، ويكون القبحُ أشدَّ من جهة ارتباطِها، بما في ذاكرتنا من نجاستها، وما فيها من الداء.. وبمعيار الحق (العقل العلمي) فهي حَسنة؛ سواء أظهر ذلك من علم الأحياء، أو كان ذلك مُغيَّباً في حكمة الله، أو ما ظهر في تجربتنا العادية كالانتفاع بها في بعض هِواياتنا وحاجاتنا كتدريب الطير الجارح الوحش على اصطيادها؛ فذلك من تعليم الجوارحِ الصيدَ، أو إجراء التجارب العلمية عليها.. وأما المِعيار الجمالي فقد أسلفتُه.. وهكذا صوت الحمير؛ فهو أنكر الأصوات، ونكارته قبحٌ في إحساس النفس، وبالمعيار الخُلقي ففيه منفعة في حكمة الله ظهر لنا منها من ظاهرة الإتقان [التي هي من قيمة الحقِّ] مناسبةُ صوتِه لبشاعة ما رآه؛ ولهذا أَمَرنا الشرع بالتعوُّذ عند سماع صوته.. وبالمِعْيار الجمالي فأَمثلته كثيرة في المَسْموع والمُبصر؛ فَبهاءُ العافية والإيمان في الوجه حُسنٌ، وهو الجمال بعينه؛ ولهذا قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في مداواة النفوس/ ضمن رسائل ابن حزم/ 1/375: «الحسن هو شيئ ليس له في اللغة اسم يُعَبَّر به غيرُه؛ ولكنه محسوس في النفوس باتِّفاق كل من رآه، وهو بُردٌ مكسوٌّ على الوجه، وإشراقٌ يستميل القلوب نحوَه؛ فتجتمع الآراء على استحسانه وإن لم يكن هنالك صفات جميلة».
قال أبو عبدالرحمن: هذه رِيادةٌ من أبي محمد في ملاحظةِ شُحِّ اللغة بالمترادفات لبعض المعاني، ورِيادةٌ منه في جمعِ الحسن معانيَ المعايير الثلاثة باستنباط مني لا بنصٍ صريح منه، واستثنى الصفاتِ الجميلةَ لقصور المعنى الجمالي في الحسن على المسموع والمُبْصر؛ ولكونه فيما عدا ذلك مجازياً، والحسن المرئيُّ مع تخلُّف كثير من الصفات الجمالية بالنسبة للبشر حُبٌّ روحي، وهو المَلاحة، وهو الحبُّ الحقيقي لعمر الله، وأما عِشْق الجمال وحسب فذلك هياج شهواني ينطفئ عما قريب.. وأخْشى أن تصدأ نفسي مَلَلاً من الاستمرار في معالجة موضوع واحد؛ ولهذا أُرجئ إتمام بناء النظرية الجمالية إلى أُوَيقات متباعدةٍ يتجدَّد فيها النشاط، ويذهب الملل، وتَهُبُّ رياح الحَنين والاشتياق؛ فإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.