يَتَصرَّفُ ربُّنا جلَّ جلاله في هذا الكونِ الذي هو خَلْقُه ومُلْكُه بحكمته وعلمه وعدله ورحمته، وما يتعلق بدنيا البشر في ذلك فإنَّ له وِئاماً بين الفرد ذي الإيمان الثابت بعناية ربِّه ولطفه؛ فيعيش بوئام وسلام مع المُنغِّصات، ويعلم أن أحزانَهِ رصيدُ حسنات مُدَّخَرٌ له،
ولا يَكِلُّ ولا يَمَلُّ من الجهاد بالدعوة والدعاء.. ومنذ أربعين عاماً توالت علينا المُنغِّصاتُ، وأدركتنا الأزمات الفاجعة في هذه الأعوام الثلاثة الأخيرة حتى أصاب المسلمَ الغيور الإحباطُ من جهةِ عَجْزه لا من جهة ثقته بربه؛ فأصبح الواحدُ منا بلا أمَّةٍ ينتمي إليها؛ بل هو بين عَجْزِ التقي وجَلَدِ الفاجر.. ما بين تَقِيٍّ مبحوح الصوت لفراغه من فكرٍ وعلمٍ يليق بفتنِ عصره ولغتِه.. وفاجرٍ لا يَحْملُ شيئاً من هموم الآخرة، ويمتصُّ (بدافع التلميع والشهرة والكسب الخبيث أو التضليل الذي يُفْقِده رشده) كلَّ الأبجديات التي غُزِيَت بها أمَّتُنا سواء أكانت فكرية جعلتنا أحزاباً وشيعاً، أم كانت سلوكية ناتجة عن الأدلجة الفكرية كما نراه الآن من البأس المُروِّع بين أهل القطر الواحد داخلياً، وحصار الأعداء الطامعين والحاقدين من الخارج، فإذا قال المؤمن الغيور: (واأُمَّتاه) متألِّماً، أو (يا أُمَّتاه) مُـهِيباً لم يجد إلا بلداناً محترقة مكشوفة، وقُدُرَات مُعَطَّلة، وسحنات ليست على قلب رجل واحد، وجُثثاً متناثرة، وجاليةً يفتك فيها الخوف والجوع والحر والقَرُّ والعُرْي والأوبئة والأمراض النفسية، وأوبئةً تُـهدِّدُ البر والبحر والأجواء؛ فيصير المسلم غريباً بينهم أشدَّ من غربة أبي الطيب في شِعب بَوَّان.. يصير شبهَ يائس من اجتماع صف واحد يستمطر رحمة ربه.. وغربة اليوم بحمد الله - وإن عَمَّتْ البلوى - ليست هي غربةَ آخر الزمان وفساد الكون حين يفرك المسلم الأرض ببطنه ويتمنى أن يكون من أصحاب القبور، أو يعتزل في صدْع جبل يتحنَّث لربه، أو يعتزل تحت سفح جبل يرعى غُنيماته؛ فأُمَّتنا موعودة بخير قبل هذا كله.. ولكن غربتنا جزئية ومُسْتقبلية؛ لأننا نعيش في جماعة يجمعها المسجد والمنابر، وفي ظلِّ دولة مسلمة تُحْسِنُ بكل قدراتها أوجه المعادلة بين ما هو كائن قسراً وما ينبغي أن يكون؛ فأما الغربة الجزئية فهي فُقْدانُنا ما كنا عليه منذ نصف قرن يوم كنا مجتمعاً واحداً يَزَعَ أفرادَه الحياءُ الاجتماعي وأَبَويَّةُ القريةِ والأسرة والقبيلة، وأما المستقبلية فهي كثرة التعدُّدية التي يدخل هديرها لا مجرد صداها كل بيت وكلَّ طريق وكل بقعة من الأرض بأسباب وسائل التواصل الحديثة.. وكثرة التعدُّدِية منذر بقوله تعالى:( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبَِكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) [سورة الأنعام/ 65]؛ وهذا ما وقع الآن في الأقطار الشقيقة عروبةً وإسلاماً، وفي الأقطار الشقيقة الإسلامية.. وليست غربتي غربة الانهزام واليأس إلى درجات الضعف البشري الناتج عن آثار الشعور بالضياع والاستلاب، وفقدان موقفٍ يتحمَّلُ به الفرد مسؤوليته.. وأقبح ما في الغربة الانهزامية البكاء من دعوى الجَبْريَّة، والغيابُ في الإباحية والعدمية كما في هذيان المركيز (دي ساد)، والسلوك الهيبي الوجودي، و(الليبيد) عند (فرويد) الذي ادَّعى أنه تسامٍ فوق قلق العصر - وانظر عن الليبيد وبإيجاز المعجم الأدبي ص230 -.. ويلي هذه الغربةَ غربةُ (المُـحال المسرحي؛ إذن يكون تخلياً سلوكياً حراً عن دلالة النص المعصوم، وعطاء العقل الإنساني المشترك، والمشاعر النفسية السوية في النفوس المشتركة البشرية العاقلة أيضاً.. بل العِوَضُ شيئ يسمونه (اللاشعور) يعكفون عليه ليستخرجوا أوهامَ المجهول وهم في ثراء من العقل والحس والنص وتربية المصلحين.. وعناصر المجهول في (اللاشعور): الأسطورة، والرمز، والأحلام، والكوابيس، والخيال الجنوني.. إن مسرح المُحال لبكَّت وأعوانه يتقزَّز من واقع الوجود على أنه غثيان، ولا يُشخِّص غثيانَه؛ ليتغلَّب عليه بعقل سويٍّ.. بل هو اللامبالاةُ والغيابُ بالوهم بانتظار ما لا أمَل في مُثوله واقعاً، والقناعة والتلذُّذ معاً بالنوح والضياع وراء ابتغاء المُطلق.. وهم يعبِّرون بالمطلق عن الرب جلَّ جلاله في وعده ووعيده وحلمه وحكمته وإحسانه؛ فالقُبَّالة اليهودية تُبعِد الناس عن طمأنينة الإيمان بالتشكيك في معارف العقل، ووعي المشاعر، ودلالات الحس الظاهر والنص المعصوم.. ثم يأتي هيجل فيجعل التديُّنَ غربةً في كلمته القبيحة: « إن الإيمان الديني، والتَّدَلُّه، والانتحار فراغُ صبرٍ في طلب المطلق «، ولقد حُظيت فلسفته بأكبر معجم خاص بمصطلحاته يُذَلِّل الربط بين أفكاره التي يجعل لها أكثر من معنى في الفلسفة.. والغربة عند هيجل قدرٌ حتمي شبَّهه بالدائرة التي هي رمز الأبَدِيَّة؛ لأنها مسار دائري لا يتوقف.. وفي كتاب الإنسان التقني (ص50-53): أن الاغتراب حلم بتكوينٍ جديد للإنسان يتلاءم مع طغيان العلم بناء على خبال النشوء والارتقاء في هذر دارْوِن.. إن هذه الغربة العنادية الانهزامية هَلْوسةٌ منتهاها إلى العدمية، وإنالعقل المؤمن السوي في سلام مع نفسه وإيمانه، وليس في غربة عنادية انهزامية؛ لأنه يعلم أن في النفس غرائز تطلب شهوة القتل والظلم والإباحية، وفي النفس غرائز تطلب السمو والخير والعدل.. والذي خلق هذه الغرائز المتبايِنة هو الذي خلق العقل، وبيَّن الشرع، وبعث الرسل، وأوصى بالتربية والتنشئة؛ فإذا كان سلوكنا عن حضور عقلي فلا غربة، بل هو السلام والأنس.. وقبل الشعور بالغربة أمام العالَم لابد من السلام مع النفس؛ لأن إفرازات الفكر الصهيوني حربٌ على دين الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وعلاجِ المربِّين والمصلحين جزاهم الله خيراً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبوعبدالرحمن: والغربة التي أعيشها اليوم في هذه الأجواء القاتمة غربة اصطناعية، وهي نوعٌ من الغياب المؤقَّت حتى يستعدَّ العقل والنشاط لمواجهة المسؤوليةِ الفردية حسب القدرة.. وهذه الغربة المُصطنَعة ليست غياباً عن الوجْدان الذي هو في سلام مع ربه الذي هو السلام سبحانه وتعالى دعاءً ومناجاةً وشوقاً وفألاً.. إنها غياب مع النفس المجبولة على الرومانسية: يتذكَّر الدغدغات الجمالية، والمُسَلِّيات في أويقات محدودة، ثم ينجرد الصقيل من غِمْدِه وقد شحذَه بعض نِعَمِ الرومانسية، وقبْلَ الرمي تُملأ الكنائن.. هي غيابٌ عن الواقعِ الجماعي بسبب طول الغربة عن شفافيَّةٍ رومانسية فردية، والغذاءُ منها هو الشرطُ للتفاعل مع الواقع.. وكيف تواجه النفس الصادئة رسالتها في الوجود ولم تُصَفِّها الرومانسية من أصدائها.. وليس من الغربة في شيئ تعداد آثار الهزيمة والإحباط إذا تمَّتْ بلورةُ البديلِ الكريم؛ وإنما الغربة الانهزامية حينما نُعَدِّد مآسينا مسترفدين من عدونا المُستَلِذِّ بكل مأساةٍ تتجدَّدُ لنا كقول البياتي يخاطب زكي الأرسوزي سنة 1969م - والأرسوزي مع عفلق من الأقليات الطائفية التي غررت بأمتنا ردحاً من الزمن بكيدٍ صليبي -:
[طحنتنا في مقاهي الشرق حرب الكلمات.
والسيوف الخشبية.
والأكاذيب وفرسان الهواء.
نحن لم نقتل بعيراً أو قطاة.
لم نجرِّب لعبة الموت ولم نلعب مع الفرسان.
أو نرهن إلى الموت جواد.
نحن لم نجعل من الجرح دواة.
ومن الحبر دماً فوق حصاة.
شغلتنا الترَّهات.
فقتلنا بعضنا بعضاً وها نحن فُتات.
في مقاهي الشرق نصطاد الذباب.
نرتدي أقنعة الأحياء في مزبلة التاريخ.
أشباه رجال.
لم نعلق جرساً في ذيل هِرٍّ أو حمار.
أو نقل للأعور الدجال:
لمَ لُذت بأذيال الفرار].
وهذا المقطع مُقدِّمة لشجونه تجاه نكسة حزيران، وما بعد حزيران من الحريق العربي والإسلامي أَمَرُّ وأْنكى، بل هو الفاجعة التي مسحت الآن وحسب وجودَنا المُعتَدَّ به، وقبل حزيران كنا فوق القِشَّة نَسْعَد ببصيص من الأمل والفخر قبْلَ وجود الهيمنة الواحدة، وقبل هيمنة وسائل التواصل السريعة التي يُسمونها (معلوماتية).. وكل قصيدة البياتي غُرْبةٌ انهزامية؛ لأنها لم تقترح وتبلْوِر الصفَّ الكريم الذي يشعب الصدع، وإنما هو بكاء مغترب مع أيديولوجيات الأرثوذكسي، وأيديولوجيات ما بعد الحربين الكونيتين؛ فأي سلام لنا في مُلاعبةٍ سيف قاطعٍ يُلغي رسالتنا؛ فنعيش في أَحْلَى الأمَرَّين كبهيمة الأنعام مواطنين نشبع من الرغيف ونَحْتَسِي كلَّ ظواهر الإباحية؟.. ثمَّ عانَى بنو جلدتنا (لُعْبَة الموت) فإذا هم في عماء يستلحم بعضهم بعضاً ليست لهم أهداف كريمة سامية يستعيدون بها وجودهم التاريخي ويتَّحِدُون عليه.. والعَدوُّ الطامعُ والحاقد سوَّلا للضعفاء لعبةَ الموت؛ ليخنق هُوِيَّتهم، ويسرق أرزاقهم، وَ يُحمِّل أشقاءهم التعمير والترميم عقوداً من الزمن؛ لتظلَّ الأمةُ في أغلال الهوان والضعف والعجز.. إن السلامَ وهزيمة الغربة يكون بجماعة ودولة على قلب رجل واحد مهما قَلَّ عَدَدُها ومددها؛ لأنها تسعى لما يُرضي ربها عبادةً وعمارة للأرض، وتبذل كلَّ مساعيها وَقُدُراتها في المعادلة بين ما يُقْدَر عليه وما لا يُقْدَرُ عليه، وتعيش يقيناً بأنها الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خَذَلها: إما بدفعٍ من الله يحميها، وإما بمددٍ يُمضي عزيمتها، وهي على نعيم وجداني في السراء والضراء، فالحمد لله شكراً شكراً شكراً، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان.