* ما كان قرار سحب سفراء المملكة والإمارات والبحرين من قطر مفاجئاً لي، ولا لكثير من المراقبين الذين يرون في السلوك السياسي القطري منذ سنة 1996م؛ مغامرة سامجة إلى حد بعيد.
* أتذكر أني كنت في الدوحة صائفة عام 1975م بدعوة من حكومتها آنذاك، وقد تجولت في شوارع وميادين قليلة ومتواضعة، تصلح لقرية كبيرة بمقياس اليوم، وهذا ليس عيباً عليها، فمثلها كان كثير عندنا وفي دول الخليج قبل طفرات أسعار النفط وتطور المدن، فنالت الدوحة ومدن قطرية أخرى حظها من التطوير الجيد، وما حدث في قطر من نهضة وتطوير ليس بسبب أسعار النفط فقط، ولكن لتوفر الأمن والاستقرار الذي نعمت به هي وشقيقاتها الخمس في مجلس التعاون ككتلة واحدة طيلة عقود عدة.
* وصلت الدوحة في هذه الرحلة من المنامة عاصمة البحرين، وكنت في ضيافة حكومتها كذلك، وأتيحت لي فرصة جميلة للقاء أميرها الحكيم الشيخ (عيسى بن سلمان آل خليفة) رحمه الله، في قصره بعد صلاة الجمعة، حيث أجريت معه لقاءً مطولاً؛ نشر بصحيفتي آنذاك (الندوة).. (رحمها الله)..!
* في هذا اللقاء، تطرقنا للجوار الإيراني والعربي بطبيعة الحال، وكان رحمه الله؛ يتحدث على خلفية فقد المنقطة للملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، الذي توفى قبل أشهر عدة، ويربط في كلامه هذا؛ بالموقف السعودي الشجاع، الذي أخمد فتنة كانت تجتاح بلده وقتها فقال: (المملكة يا ولدي؛ مثل القلب في المنطقة، ونحن في البحرين والكويت وقطر أجنحة لها).
* كان الشيخ عيسى رحمه الله نموذجاً للحكام الحكماء في هذا الجزء من العالم، ومنهم أمير قطر الأسبق الشيخ (خليفة بن حمد آل ثاني)، وأذكر أنه ذكّرني بعد الفراغ من التسجيل؛ بحكيم العرب (ذو الإصبع العدواني)؛ الذي جمع أبناءه عند وفاته، وسلمهم حزمة من عصي أو رماح وقال: هيا اكسروها. حاولوا فلم ينجحوا. بعد ذلك.. فرّقها وطلب منهم كسرها كل واحدة على حدة، فكسروها.. ثم قال يوصيهم:
كونوا جميعاً يا بنيّ إذا اعترى
خطبٌ ولا تفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً
وإذا افترقن تكسرت أفرادا
* عندما قلت بأن التنمية التي شهدتها قطر لم تكن بسبب العائدات النفطية فقط؛ فأنا أشير إلى عامل في غاية الأهمية، وهو الشعور بالأمن والاستقرار، ومن ثم التفرغ للبناء، في ظل جوار آمن من دول منظومة خليجية متناسقة سكانياً وجغرافياً، ومتناغمة إدارياً وسياسياً، وهذا ما حصدته الدول الست، فاستطاعت مجتمعة درء الكثير من العداوات والغزوات التي استهدفتها من البوابتين العراقية والإيرانية، وما زالت تشكل الخطر التقليدي القديم نفسه، لكن يبدو أن السياسة القطرية بعد انقلاب الابن على الأب، شغلت نفسها بحلم زعامة إقليمية ودولية أكبر منها، وليس باستطاعتها الوصول إليها إلا بطرق ملتوية، ولهذا رأينا كيف رهنت مصيرها لقاعدة أميركية هي الأكبر خارج أميركا على مستوى العالم، وللجزيرة (القناة)؛ التي تشعرك لأول وهلة أنها مفروضة على دولة قطر، وأنها موجودة في قطر وليست لقطر..!
* كيف نفسر هذا السلوك السياسي المغرد خارج سربه..!
* تحول المال القطري والإعلام المنطلق منها؛ إلى خناجر مسمومة في خواصر دول الجوار في المملكة والإمارات والبحرين، وإلى أدوات لمؤامرات وتخريب في المنطقة كلها، فنحن لم نعرف الهالك ابن لادن وعمليات القاعدة والتمجيد لها، والتبجيل لزعماء الإرهاب وأدواته وعملياته في المملكة وفي دول كثيرة، إلا من قناة الجزيرة التي تستضيفها قطر، ولم يرتفع صوت لجماعة الإخوان الإرهابية، ويبرر لإرهابها في الإمارات والمملكة واليمن ومصر والأردن وليبيا وتونس والمغرب والجزائر والبحرين وخلافها، إلا من خلال الجزيرة التي تبث من قطر وليس في قطر ولا لها.. ومن خلال البوق الإخواني المتأقطر (يوسف القرضاوي)، بمعنى أن قطر: (مأمورة) كما يقول بعض المحللين..! فهي توجَّه بقوة قاعدة العديد وقناة الجزيرة لا أكثر، وأنا أقول هنا: حتى لو كانت مأمورة، فلا تدعوها تسير على عماها، لأنها سوف تضر نفسها وتضر أهلها من حولها..!
* الحركيون والحزبيون والصحويون في المملكة، وفي دول الخليج ومصر والأردن وغيرها، كانوا يقولون عنا (متآمركين) في سنوات خلت..! فلما انتقلت القوات الأميركية وأصبحت لها قاعدة كبيرة اسمها العديد في قطر، سكتوا..! ولم يقولوا شيئاً عن قطر التي تكمم أفواههم بالدولارات، وتستضيف زعماءهم في الدوحة ليباركوها في شهر رمضان الفضيل، ويتمسحوا بجدران قاعدة العديد، ويشدوا من أزر قناة الجزيرة التي هي (سوط من لا سوط له)..!
* إذا جاء الخطر من قطر؛ فلا ينبغي (تركها لأنها مأمورة)..! لكل غاشمة زمام، وخليجنا الواحد؛ هو زمام وعقل من لا عقل له.