* قبل وصولي إلى الرياض؛ وحضور جلسات اللقاء العلمي عن الأديب الكبير (عبد الله بن محمد بن خميس) رحمه الله، كنت أستحضر صور لقاءاتي الكثيرة معه في الطائف صائفة كل عام تقريباً، سواءً في داري المتواضعة بالمثناة، أو في داره بحي السداد، أو في دور كثير من الأدباء الذين أحبوه وأحبهم في الطائف المأنوس،
وتلك التي كانت تجمعنا في رحلات إلى سوق عكاظ، وإلى مقر دار التوحيد، وإلى سدود أموية وقرى تاريخية ومواقع مختلفة حول الطائف.
* الشعر والأدب والفكر واللغة والتاريخ وعبد الله بن خميس، الكل في واحد، هو هذا العالم الفذ، الذي هو بهذا الجمع المتفرد؛ يجعل للكلام قيمة، وللمكان هيبة، وللزمان حلاوة وطلاوة. المطارحات الفكرية والأدبية في حضرة ابن خميس في حياته وفي مماته، هي عنوان قيادة وريادة في كافة الاتجاهات الإنسانية، التي يحتاجها الإنسان العربي، لكي يفجر طاقاته، ويبني كما بنى أوائله، أو فوق ما بنوا.
* في طريقي إلى الرياض؛ تذكرت البعض من مقولات ابن خميس.. كان يردد: (الأدب هو صورة للحياة، والأديب الحق هو من امتزج دمه وروحه بتربة وطنه، وعاش مشكلاته، آماله وأحلامه، وبالتالي تطلع إلى معالجة قضايا الوطن الكبير). و(إذا لم يتفاعل الأديب العربي مع أمته لإيقاظها؛ فهو إنسان حالم، والأحلام لا مكان لها على هذه الأرض).
* ولكن متى ينهض الأديب العربي بدوره كاملاً؛ إذا كان: (ليس حراً طليقاً في كل ما يقول ويكتب، والأمة العربية ما زالت تقاسي من الغزو الفكري، ومن الاضطهاد والفوارق الطبقية التي ينوء بها كاهل الأديب أو المفكر، والمؤسف أن ثمة بلاداً عربية تدعي الثورية، وتتغنى بالتقدمية، بينما هي تغتصب الفكر، وتخنق الحريات)، والكلام هنا للمرحوم ابن خميس.
* عبد الله بن خميس رحمه الله؛ كان من الرعيل الأول المؤسس للبنية الأدبية والفكرية الصحيحة؛ ليس فقط في المملكة العربية السعودية وحدها، وإنما في الوطن العربي كله، فهو الذي سعى إلى أن يكون للأديب دور في أمته، وأن يكون له احترامه وقيمته في مجتمعه، وهاهو يلقى بعض الذي دعا إليه في حياته، من تقدير رسمي، واحتفاء مجتمعي، وكان من الأدباء والباحثين القلائل، الذين نالوا حظاً من التقدير والاحتفاء بهم في حياتهم قبل مماتهم، وكثير من أدبائنا ومؤرخينا ومفكرينا، لا ينالون ما يستحقون من تبجيل إلا بعد فقدهم، هذا إذا تذكرهم أحد التلاميذ أو المتأثرين بنتاجهم، وهذه من الخصال غير الحميدة في أوساطنا العربية، أن يعيش الأديب والمفكر غريباً في وطنه وبين أهله، وإذا رحل عنهم؛ تغشوه بأدعية الرحمة، ودفنوه بخاصية النسيان.
* حمدت لدارة الملك عبد العزيز ونادي الرياض الأدبي، هذا الشعور الجميل بقيمة الوفاء لشخصية عبد الله بن خميس، وهي قيمة تمتد لكافة الأدباء والمفكرين والباحثين، الشباب منهم والشيوخ، الذين يرون أن نجماً من بينهم ما زال حياً رغم موته، فهاهي أعماله تلقى تقدير الدولة وتبجيل المجتمع.
* عبد الله بن خميس، الذي تلقى علومه في مدرسة دار التوحيد بالطائف، وانطلق منها أديباً وشاعراً وكاتباً صحافياً في سن مبكرة، هو مثل غيره من مجايليه في ذلك الوقت، حفروا في صخر الأدب والثقافة، دون مساعدة ولا دعم من أحد، وقليل منهم مثل ابن خميس وحمد الجاسر على سبيل المثال، ساعدتهم ظروفهم المكانية والاجتماعية، بأن كانوا في مدى الرؤية الرسمية والشعبية، فنالوا عناية أكبر، واستفادوا من الدعم الرسمي في تنفيذ مشاريع أدبية وعلمية وصحافية لها شأنها اليوم، ووصلت أبحاثهم وكتبهم إلى البعيد والقريب، وهذه ميزة كبرى لم يظفر بها أدباء وباحثون كبار من أقرانهم وممن جاء بعدهم في مناطق ومدن كثيرة، وهذا عائد ربما إلى عدم وجود قنوات وآليات ثقافية تصل إلى أبعد مدى في الوطن، وتخدم الكل، وحتى بعد قيام الأندية الأدبية قبل أربعين عاماً، ظل هناك من يحفر في صخور الثقافة والأدب بأيادٍ معروقة إلى يوم الناس هذا، دون أن يلتفت إليه أحد..!
* بعد حفل تكريم شخصية الموسوعي المعجمي الشيخ عبد الله بن خميس يومي الأربعاء والخميس 19- 20 فبراير الفارط، جاءت البشارة على لسان الدكتور فهد بن عبد الله السماري، أمين عام دارة الملك عبد العزيز، الذي كان يتحدث من جُدّة، بأن أدباء المملكة ومفكريها الكبار، سوف يكرمون في كافة المناطق. هذا جيد.. وعسى أن يأتي هذا على عدد كبير من الأسماء في العام الواحد، وليس اسماً واحداً في العام، وأن يشمل الأحياء منهم إلى جانب الأموات.
* شكراً شيخنا المرحوم عبد الله بن خميس، فقد عشت في حضرتك يومي الأربعاء والخميس، لأنك لم تُنس، ولم تُدفن آثارك، وقد عُدتُ من جديد؛ لأقرأ كتبك، وأسمع شعرك، وأتذكر مجالسك الأدبية في الطائف المأنوس.