العلماء يكتشفون وهم يجربون.. يخوضون في التفاصيل ويضيفون إليها، تأتيهم بكلها، وبجزئها.. ولا يتوقفون..
من أجل هذا يكون صنيعهم الدؤوب في صالح البشرية.. في شؤون الطبيعة من حولهم، ومعطيات الكون لهم بما يعزز بيئاتهم، ويمدها بما يطورها، ويحسن أداءهم فيها، ومن أجلها، في شؤون صحتهم، وتعليمهم، ومهاراتهم، وصناعاتهم، ومعارفهم، وعلومهم، ومناخهم، بل غذائهم، وعلاجهم، وزراعتهم..و..و
لذا تهتم الشعوب المتقدمة بشأن التخصصات العلمية البحتة الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات و..و..
وتجعل هذه التخصصات في جامعاتها خليات عمل، وتدريب، وتفكير، ومتابعة، ودراسة متواصلة، وتجريب حيوي، ومشاركة لقاءات، وبحث دؤوب، واستمرارية تطوير، ونشر متتال في القنوات المختصة..
إن أقسام هذه التخصصات لا تكل من العمل الدؤوب، لمتابعة نظرية، واكتشاف جزئية، ومتابعة مستجدات في الفضاء الشاسع، وفي النظرية العلمية، وفي العمليات الذهنية..
كل ذلك من أجل تطوير حياة البشر، والخلق الآخر على الأرض، وتحت السماء.. بمقدرات ما خلق الله في الأرض والسماء، {... فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} حثاً على سلطان العلم، وعلومه، ونظرياته، واكتشافاته، وتطبيقاته، ونتائجه..
وهناك توابع أقسام هذه العلوم في جامعات الغرب من المراكز، والمؤسسات، والمعاهد، والمختبرات، التي تستقطب الدارسين، وصغار الباحثين، بل المبرزين منهم، والواعدين.. لتصنع منهم علماء يضيفون للبشرية..
ونحن ماذا تفعل جامعاتنا بهذه التخصصات..؟
تفعل بها ما تفعله في الكليات الخاصة بالدراسات النظرية، هذه التي يسمونها بالعلوم «الإنسانية»، فيزجون بأغلبية الأعداد من الملتحقين بها في أقسام «اللغة العربية» و»التاريخ» و»الجغرافيا» تصنيفاً متأخراً عن بقية أقسامها الأخرى.. وكم عانت هذه الأقسام من الاكتظاظ، وخرجت من المستويات الضعيفة..
تفعل هكذا جامعاتنا في تصنيفها حين تزج بالطامحين من الثانويات العلمية في كلية «العلوم»؛ إذ تأتي في التصنيف الجامعي بعد الطب وكلياته المختلفة، والعلوم التطبيقية، والحاسب الآلي، والهندسة، فيتحسر أولئك الراغبون فيها أن قبلوا في كلية «العلوم»؛ إذ إنهم بهذا القبول لم ينالوا شرف بقية الكليات العلمية التي تبجلها جامعاتنا تلك..
ومن بوابة هذه الكلية «العلوم» يتحرك الطالب فيما بعد إن قبل إلى كليات الحاسب، أو للطب.. مع أنها اختصاصات محددة الدور في المستقبل..!!
ولأننا قوم لا يثمنون قيمة العلوم، وننبهر بأي خبر دون معرفة خلفياته التي نجدها أمراً طبيعياً وملزماً في جامعات الغرب ضمن متطلبات التخصص أن يشترك الطالب الباحث في مجال دراسته في اللقاءات العلمية، ويقدم ورقة مشتركة من بحثه، أو يسجل اسمه ضمن فريق عمل يكون له فيه الحضور أو الإسهام اليسير، فإننا مجرد أن يشترك من طلابنا الدارسين حين دراستهم أو بعد تخرجهم في فريق بحث في تلك الكليات العلمية نطلق الأبواق من حوله، ونضخم العناوين عنه، ونمنحه من الألقاب ما يوحي بعضها بأنه بلغ المدى، وجاء برأس «غليص» من آفاق الأرض والسماء.. ولا نتورع من وضعه ضمن قوائم «الخارقين».. ويكون هو فقط قد شارك بتوجيه من مشرفه للمشاركة، أو الزيارة، أو حضور عمل في فريق علمي.. أو عرض ورقة عمل يشتغل على موضوعها مع مشرفه.. أو حتى رغبة أحدهم ذاتياً للاشتراك وتسجيل اسمه في مجال تخصصه ضمن فرق الجامعات هناك..
فلماذا إذن لا نولي أقسام العلوم الطبيعية ونظيراتها في كليات العلوم في جامعاتنا أهمية، وندعم فيها البحث، والتجريب، ونطور من آلياتها، ومكتباتها، ومراكز تجاربها..؟! ونتيح لمنسوبيها الاحتكاك بعلماء الجامعات العالمية المبرزين، ومتابعة البحث فيما بعد الدكتوراه..؟ واستمرارية تطوير الخبرات فيها..؟!
أما المشرفون هناك، في الجامعات العالمية في هذه التخصصات، فهم لا يزالون طلاباً باحثين في مجالهم، يحركون للبشرية عقولاً هي التي تكتشف جديداً، وتضيف مكتشفاً، وتبتكر من خلال ذلك الأداة، والمنهج، والنظرية، لتطوير حياة البشر صحة، ومعرفة، وبلوغاً للحقائق في كون الله..
ترى، أتظل مع هذه الانفتاحة وهذا الاندماج بالعالم كليات العلوم في جامعاتنا البوابة الواسعة لبقية التخصصات..؟
وتبقى مهملة لا تدعم بمختبرات مكينة، ولا يتاح لطلابها فرص التفاعل مع مراكز جامعات، وفرق البحث العالمية في الأقسام النظيرة هناك..؟
إن المبرزين في تخصصات هذه الكليات لا يجب أن يكونوا ندرة على أرض الواقع عندنا، بل ينبغي دعم هذه الأقسام؛ لتأخذ وضعها بين نظيراتها في العالم؛ كي نضع قدماً في سلم العلوم ومنجزاتها للحياة.. ونعنى بعقول الأجيال ولا نطمسها.