إلى ذكرى الأصدقاء الأساتذة: إبراهيم المصيريعي ومحمود خيري ونزار بشير رحمهم الله
1
** تمضي بنا الحياةُ رخاءً وشدةً فنتفاعلُ ونتجاهلُ ونأسو ونقسو وتبقى ذاكرةُ بعضِ الشخوصِ وننسى تفاصيلَ معظم الأشياء وتستوقفنا ملامحُ مضيئةٌ حملتها لغةٌ ولثغةٌ وإيثارٌ وأثرٌ وإنسانٌ ومكان.
** نحاولُ العيشَ دون لغوٍ نأسى له أو نأسفُ عليه، ونتأملُ سيرة من كفَّ وعفَّ فنُعجبُ ونَعجبُ وقد نقتدي حين نتجردُ من التهافتِ على فتاتِ المادةِ وأضواءِ الانتشارِ ونفكر في السلام الدنيويِّ والمآل الأخرويِّ دون أن نعتزلَ أو ننزويَ أو ندَّعي.
** للصخبِ تأريخُ صلاحيةٍ كما للنشبِ موعدُ نضوب، وحين نغادرُ مُشيَّعين فلا يبقى سوى ذاكرةِ قلبٍ وذكرى عبور.
** يرحل الطيبون لأنهم يُفتقدون، ونأسى حين يلفُّ الصمتُ عالم الخروجِ والضجيجُ عالمَ الولوج والمسافةُ بينهما رحلةَ الحياةِ الحرةِ والمرةِ ونتمنى لو نلقى طيبًا رحل دون وداع ومودعًا خلَّفنا عند المتاع.
** هنا تبدو السيرُ الموثقةُ والحكاياتُ المتواترةُ سبيلَنا لادكارٍ واعتبار فنرى ميْتًا حيًا وحيًا ميتًا وقاعًا دون قرار وأسطحًا بلا أغوار وأرواحًا كغيمةِ خير ونفوسًا كنذرِ شر ومن يبتسم مصفرَّا ويستقبل مُزْوَرَّا ويؤنسُه الغبار.
2
** ربما هو حسابُ مكتهلٍ يدنو به خريفُ العمر من فترات التأملِ والمحاسبة، أو لعله يقظةُ غائبٍ عن الوسائط الورقيةِ والآليةِ لا يدري عن كثيرٍ من كثيرٍ مما يدور ويستدير فيغفل وينسى ويتوارى ولا يرى ثم يوجعه حدَّ الفاجعة أن يعلم وفاةَ صديقٍ لم يودعه أو زميلٍ لم يشيعْه أو ذي فضلٍ لم يعرفه، «ولات ساعةُ مندم».
** لا يملك رقمًا لكنه يحسُّ اليوم بتزايد أعداد الراحلين حتى كدنا نلتزم ببرنامجٍ منتظمٍ نتردد فيه بين المقابر والمآتم نُعزِّي ونعزَّى وكأنه الوعدُ مع الشموس الغاربةِ تدعُنا مع الحزنِ والدعاءِ مؤمنين أن «كل نفسٍ ذائقةُ الموت».
3
** كان يومُه فاترًا حين رأى «فراش» جدِّه الأثير مطويًا كما لم يعتدْ، وقرأ الطفلُ في عين أمَه وجدته ألم الفراق، واستيقظ الحزنُ مُمضًّا عندما استقبل والده العائدَ من اغترابه العمليِّ فائتزرَ بسوادٍ لا يدري إلام يمضي وكيف يقضي.
** وحين ارتبط الفتى بأستاذه الطيبِ في أول أعوامه الجامعيةِ أسرع إليه موعدٌ لم يُخلفْه فكان تأثيرُ الفقدِ جللاً جعل مُساكِنَه في بيت «العزوبية» يسائلُه: ألم ترَ الموتَ قبلا؟ واستتر بدموعه ولم يجب.
** وحين رحل صديقُ عمره وكانا على موعدِ لقاءٍ قريبٍ وقريبي عهدٍ بلقاءٍ أقربَ لم تستطع الأيامُ محوَ الحزنِ العميق فإن سلا يقظةً عايشه منامًا ومرت السنواتُ الخمس عشرةَ دون إبلالِ الذاكرةِ المثقلةِ بأوجاع الغياب.
4
** يرحل الأصفياءُ فيبقون ويُوارى كثيرون فيغيبون، وهنا درسٌ وطِرس؛ فالقضية فوارقُ توقيتٍ لا أكثر، وسيلتقي الجميعُ في رحاب الله ليظلَّ الرحيلُ صعبًا حين لا يُلوِّحُ الراحلون بإشارةِ وداعٍ تخففُ صدمة الفاجعة.
** الحياةُ ومضٌ فغمض.