** تأثرت شفاهيةُ المفردةِ الدارجةِ بمدخلات التقنية فتكونت تركيباتٌ ومصطلحاتٌ وتفسيراتٌ ناشئةٌ وناشزةٌ قد تحتاج إلى ترجمةٍ كي يفهمها من لا يتواصلون عبر مفاتيح اللوحة وأضواء الشاشة ورموز الوسائط،ونشأت مفرداتٌ تعربت أو تفصحت فأُضيفت إلى لغة الكتابة والخطابة والإبداع السرديِّ والشعري،وفي ذلك أو بعضه خير.
** ما ليس خيرًا إحياءُ مفرداتِ السوقةِ الهابطةِ في لغة التخاطب التقني بصورة لا يكاد ينجو منها كبيرٌ في علمِه وعمرِه ومقامِه ولا صغيرٌ فيها أو في بعضها ؛ربما لاعتيادية الطرح كما عاديته وغلبة العفوية والانسيابية التي قد تتجاوز تلقائيتُها حدود اللياقة واللباقة فتصنع لغة تشاتمٍ تُسفُّ فتدنو من الدرك الأسفل في التهاجي، وكان من الممكن قبول هذه اللغة الرديئة لو حُصرت بين متخاصمين لكنها أضحت لغةً سائدةً يقولها أيٌ لأيٍ دون ستارِ حياءٍ أو إحساس ألمٍ أو ندم.
** كان الآباءُ وما يزال بعضُهم يربي ولده فلا يستطيع النطق بما يشاء كيف يشاء،ووعوا مفرداتٍ حُرمت عليهم أطفالًا ويظلون يحرمونها كهولًا وشيوخًا ولا تستطيع ألسنتُهم التفوه بها أمام من يعرفون ومن لا يعرفون ومن يقدرون ومن يُحقِّرون، ثم تساهل الجمعُ فنمت لغةٌ نافرةٌ يأنف منها الذوقُ الجميل وتفر منها المسامعُ الراقية.
** وإذا كنا نَعلم ونُعلِّم من موقفٍ تعبديٍّ وإملاءٍ وعظيٍّ وإيماءٍ سلوكيٍ أن «المؤمن ليس بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» فإن بعضّ ما نمارسه - ويوشك أن يكون الأعمَّ - يتجاهلُ هذه المقدمات الاعتقادية والعملية،وعجبنا من كلماتٍ شاردةٍ ينطقها الطفل في أولى خطواته التعليميةِ وربما تبادلت المدرسةُ والبيتُ عتابًا حول مسؤوليتيهما، أما اليوم فما عادت تلك الكلماتُ ذاتَ بال بعدما خَلَفها إسفافٌ قوليٌ آثمٌ مُؤثم.
** يتكون اليوم قاموسٌ مختلفٌ يحمل جديدًا جميلًا يثري اللغة ويوقظ صمتها ويحتفي بدرسه علماء اللسانيات الحاسوبية مثلما يفيض بعضه بقذىً مؤذٍ يُسقم العينين والأذنين ويستبدل بمشاعر الاحترام مشاهد الاحتراب وقد يعتني بمتابعتها باحثو علمِ الاجتماع.
** ويبدو جانبٌ قاتمٌ آخرُ في تسيد العاميةِ وذيوعِ اللحن وتخليطِ اللغة بما هو أجنبيٌّ وحوشيٌّ وساقطُ دلالة وهو ما يعني تراجعَ اللغة الشاعرة الجميلة وغيابَ الأساليب المُوجِّهةِ وتقزيمَ النموِّ المعجمي وقصورَ الفهم النحوي والبيان البلاغي والمعرفة الإملائية،وربما جاء في حسابها الإيجابي كشفُ الهوانِ الذي لم يقتصر على النشءِ بل امتدَّ لمن يقال عنهم رموزٌ ومعلمون.
** نُقل عن طه حسين وصفُه الشعرَ العاميَّ بأنه امتدادٌ للشعر الجاهلي في أصالته وجزالته غير أنه «فاسدُ اللغة» فبمَ نصف لغة اليوم الهجينةَ وفيها ما هو فاسدٌ مبنىً ومعنىً من العاميِّ والمبتذلِ والقميءِ والملحونِ؟ أوَلا تُلام المنازلُ والمدارس والجامعات والمنابرُ ووسائلُ الإعلام وفيها من يضرب الدفَّ فيتراقص معه المريدون فأيَّ غدٍ يَنتظرُون ولأيِّ وعدٍ يتطلعون ؟
** اللغةُ إنسان.