قال له صديقُه العربيُّ: تبدون لي الشعبَ الأميزَ في ممارسة جلد الذات بصورةٍ تنبئُ لمن هو ناءٍ عن بلدكم ألا شيءَ يستحقُّ الرضا؛ فالجميعُ يأنسون بالكتابةِ الحادةِ والطرفة الجارحةِ والتقريرِ السلبيِّ، ولا تتبادلون في مواقعكم التواصليةِ كما في وسائطكم الشخصيةِ غيرَ السِّباب والحِراب والتيئيسِ والتنكيس.
)) لم يعدُ الحقيقةَ؛ فلكي يقرأَهم الجمهور ويتحققَ لهم الانتشارُ فإن العنفَ النقديَّ أيسرُ السبل أمام الباحثين عن النجوميةِ لدى الدهماء والمداراةِ لدى الكُبراء والنُّظراء، وفي زمنٍ نعيشه تُقضى حاجةُ الجريءِ السليطِ اتقاءً للسانِه وقلمِه، وفي عصر اللُّهاث الإعلامي يُكتفى بالعناوين المثيرةِ ولو محت أمسًا وأزرت بيومٍ وأخافت من غد وازداد بهم المرضى المُبتلَوْن بالهمِّ الفرديِّ والجمعيِّ القلقون على ذريتهم وأمتهم.
)) من يقترفون نقدَ كلِّ شيءٍ ينتهون إلى لا شيء بعد أن يُعكِّروا صفوَ الماء بما يخرجه من محطتي الطَّهور والطاهر دون أن يقدموا مواصفاتٍ تضمنُ تحسينَ نقائه أو الإضافة إلى جودته، وبات الحديث العشوائيُّ العامُّ معاناةً من أذىً لا يُحسُّ وقذىً لا يُرى.
)) لا يعني هذا أن نشترط الجمال المطلقَ في مقابل القبحِ المطلق؛ ففي الأعصرِ الفاضلة كما الأمم المتمدنة إشكالاتٌ لم تجعلْ مشروعاتها الثقافيةَ والتنمويةَ شوارعَ مستباحةً، بل صارت ميدانًا للإصلاحيين العقلاء كي يعُوا الواقع والوقائعَ ويبدعوا في رسم خارطةِ التحولات الإيجابية دون أن يتباروا في معلقاتِ التبكيت والتنكيت.
)) ولو التفتنا إلى ضمور الدراسات التأصيليةِ وتزايد الهذر التفصيليِّ لوقفنا عند نقطةِ المنحنى بين من يُهزم فينهزم ومن يبني ليحييَ ويرتسمَ خطىً موضوعيةً لعلاج المرض وتوفير البدائلِ وخلق بيئاتٍ صحيةٍ تخطط وتهندس لا مآتمَ إعلاميةٍ تنعي وترمس.
)) كنا مجبرين يومًا على رؤية قارعي طبولِ التزلفِ فكان انتقادُ مديرٍ عامٍ مسألةً فيها نظر، وكان للجدرانِ آذانٌ وللرقيب أعينٌ وللمعنيين أسنانٌ حتى إذا انعتقنا منها انقلبنا إلى ضدِّها كمن خرج من قمقمٍ فصالَ وجال ليئد الأملَ في نفوسٍ مشرئبَّة.
)) تطرفان؛ قادنا الأولُ إلى الخوف وساقنا الثاني إلى الحيف فتهنا بين إغلاقٍ واندلاق مع أن بينهما مسافاتٍ للرؤية والرويَّةِ والاعتدالِ والعدلِ واللغة الهادئةِ لا المهادنةِ والصوتِ العاقلِ لا العالي فبها يعتدلُ المائلُ ويعذُب الماء.
)) ولعل المتابعَ للطرحِ السائد يجد أننا نعاني من عدوىً تشاؤميةٍ مَرضيةٍ تسكن مجالسَنا ومنابرَنا فتسدُّ الأفق المفتوح وينتشر بسببها القلق والأرق والاكتئاب وفقدانَ الثقة وآلام النفس والجسد والركونَ المستسلمُ للواقع البائس، وقد يبدو جالدو الذاتِ إيجابيين وهم سلبيون ومستقبليين وهم جامدون ومصلحين وهم يبثون روحَ القنوط اتكاءً على أحكامهم المفرطةِ بشأنِ قتامة الحاضر وظلمةِ الآتي، وكما نحثو الترابَ في وجوه المداحين فإن إغلاق المنافذ أمام السوداويين هو الفعلُ المقابلُ الكفيلُ بخلق بيئةٍ متزنةٍ تُنصفُ وتنتصفُ وتفتح للشمس بابًا يخرج منه الغبار.
)) التفاؤلُ إيمانٌ والهزيمةُ إدمان.