قال أبو عبدالرحمن: في حياة الأمم ظاهرتان مُتضادَّتان مُتعِبتان: الأولى نُمُوُّ الأسطورة على المدى؛ فتصبح واقعةً تاريخية تُثير مشاعر المُتَلَقِّي، ويتفاعل معها ببهجةٍ أو حُزْن.. والثانية التشكيكُ في الحقائق الناصعة نصوعَ الشمس كوجودِ الأديبِ العالمي (شكسبير)، والشكِّ في نسبةِ بعضِ الأعمال إليه بكيدٍ صهيوني؛ إذْ ملأت شهرة شكسبير بلاد العالم، واحتضن أَدَبَه أدباء العالم ومتوسطو الثقافة، وفيها ما يفضح طبيعة اليهودي كما في (تاجر البُنْدقِيَّة)، وعسى أن يعينني ربي على ترتيب المبيَّضات والمُسَوَّدات والفيش والكُنَّاشة في هذه المسألة التي أنفقتُ فيها لياليَ كثيرة، وأنفقت فيها مالاً - لِقِلَّة ذات اليد آنذاك، ولصعوبة تحصيل المعلومة قبل عهد الإنترنت -؛ فتُرْجِمَتْ لي نصوص كثيرة من مراكز الترجمة ولا سيما في القاهرة، مع ما صُوِّر لي من الدوريات باللغة العربية، وحرصتُ على امتلاك أقصى ما وصلتْ إليه قدرتي من الكُتُب التي أُلِّفت عنه، وأما أعماله فهي لديَّ كاملة بحمد الله.. والظاهرة تَتَجَلَّى فيما مَرَّ وما سَيَمُرُّ من حماس المشاعر لدى الأديب الإخباري مع أن ديك الجن المسكين مظلوم بأسطورة نُسجت عليه، وهذا سياق آخر لأبي الفرج الأصفهاني [-356هـ] بعد أن ذكر الشعر والقصة عن ديك الجن؛ فعلَّق بقوله في الأغاني 41-59: «وهذه الأبيات تُروى لغير ديك الجن»: أخبرني بها محمد بن زكريا الصحاف قال: حدثنا عبدالله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن منصور قال: كان من غطفان رجل يقال له السُّـلَيْك بن مجمع، وكان من الفرسان، وكان مطلوباً في سائر القبائل بدماء قومٍ قتلهم، وكان يهوى ابنة عمٍ له، وكان خطبها مدة؛ فمنعها أبوها، ثم زوَّجـه إياها خوفاً منه؛ فدخل بها في دار أبيها، ثم نقلها بعد أسبوع إلى عشيرته؛ فلقيه من بني فزارة ثلاثون فارساً كلهم يطلبه بذِحْلٍ، فحلَّقوا عليه، وقاتلهم، وقتل منهم عدداً، وأثخن بالجِراح آخرين، وأُثْخَن هو حتى أيقن بالموت؛ فعاد إليها، فقال: ما أسمح بك نفساً لهؤلاء، وإني أحب أن أُقدِّمك قبلي.. قالت: افعل.. ولو لم تفعله أنت لفعلته أنا بعدك؛ فضربها بسيفه حتى قتلها، وأنشأ يقول:
يا طلعة طلع الحِمام عليها
وذكر الأبيات المنسوبة إلى ديك الجن، ثم نزل إليها؛ فتمرغ في دمها، وتخضَّب به، ثم تقدم فقاتل حتى قُتِل.. وبلغ قومَه خبرُه فحملوه وابنةَ عمه فدفنوهما.. قال: وحفظتْ فزارة عنه هذه الأبيات فنقلوها.. قال: وبلغني أن قومَه أدركوه وبه رمق، فسمعوه يردد هذه الأبيات، فنقلوها، وحفظوها عنه، وبقي عندهم يوماً، ثم مات».
قال أبو عبدالرحمن: يصعب عليَّ البحث عن رجال إسناد أبي الفرج، وشيخ شيخه عبدالله بن أبي سعد الكَراني يروي عنه أبو الفرج خبراً عن الإمام أبي حنيفة أنه شفع لجارٍ له سِكِّيرٍ يُغنِّي؛ فأُخرج من السجن، وأذن له أبو حنيفة بالغناء، وهذا خبر كاذب لا يليق بإمامة أبي حنيفة رحمه الله تعالى.. والمهم أن الأصل أكاذيب الأعراب للمسامرة ولا سيما إذا أدلجوا السُّرى في الليل، والسليك بن مجمع نفسه أسطورة، ومات القاتل والمقتول، ولا ذكر للغلام، ولا ذِكر للكوز، وكل ذلك بخلاف ما رُوي عن ديك الجن، وجمهرة التهويل في أخبار العشاق عند العرب الفصحاء وعند العامة نسيج أسطوري لقوم لا شغل لهم في منتدياتهم بعد فراغهم من أعمالهم الجادَّة إلا المسامرة بالتواريخ والقصص والأشعار الصحيحة، ثم طردُ السأم بالأساطير، وهم يقطعون الفيافي على ظهور الإبل أسبوعاً أو نصف شهر أو أكثر ذهاباً وإياباً راكبين وراجلين؛ فلا بد من السمر؛ لينسوا طول السُّرى.. وفي التراث الفارسي مصادرُ ثريَّة لأساطير العرب في هذا الباب كالذي ينقله داوود الأنطاكي رحمه الله تعالى في كتابه (تزيين الأسواق في أخبار العشاق) [فرغ من تأليفه عام 972هـ] عن جنون الغيرة 1/ 296- 299/ دار ومكتبة الهلال/ طبعتهم الثالثة عام 1994م؛ ففي ذلك خبر تلقَّاه عن حكواتيٍّ بحلب عام 963هـ سمَّ زوجته بسبب الغيرة، ونقل عن الشهنامة الفارسية عن قتل ابن الملك أباه أبرويز لمَّا عَلِقَ بزوجة أبيه الذي دَبَّر له سُمَّـاً؛ فسقطا معاً ميتين، ونقل عن كتاب اسمه (درر الأفكار في التحريض على زواج الأبكار) وجده عام 965هـ بدمشق ولم يعلم مَن مُؤلِّفُه عن ملكٍ من ملوك الفرس قتل الزوجة وخِدْنها بالسُّم ثم بالسيف بسبب الغيرة.. وقصص الغيرة يستلذُّ العرب سماعَها وإن استبعدوا وقوعَها ووقوعَ الخيانةِ نَفْسِها؛ لأنهم مجبولون على الغيرة..وهكذا أساطير ( ألف ليلة وليلة ) تراث فارسي أريد به تشويه تاريخ الأمة العربية، وهكذا أساطير عنترة والمقداد وسيف بن ذي يزن وسيرة بني هلال.. إلخ حاجة ضرورية لِمَلْء فراغِ منتديات أُمَّة مُتْخَمِة بالجِدِّ، وتتسلَّى بالبطولات والعشق والغرائب.. وهكذا عجائب الزهد والكرامات ومن شهق فمات من خشية الله، وما أشبه ذلك من حكايات أهل التصوُّف يستلذُّ لها الفضلاء من أجل ترقيق القلوب وإن كانت كلُّها (خُرافة يا أم عمرو).. وقال أحمد بن يحيى ابن أبي حجلة [-776هـ] رحمه الله تعالى فديوان الصبابة ص 118/دار منشأة المعارف بالإسكندرية: «ومما ينخرط في سلك هذه الحكاية ما حكاه الشيخ أثير الدين أبو حيان في تفسيره - عند قوله تعالى: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) [سورة يوسف: 29] -: ونُقِل عن العزيز أنه كان قليل الغيرة، وتربة إقليم مصر اقتضت هذا.. [يعني قلة الغيرة، وكل هذا حديث خرافة، وتجنٍّ على أرض الكنانة وأهلها.. والذي في تفسير أبي حيان ( إقليم قطفير )، وقطفير اسم عزيز مصر في بعض الروايات كما بيَّن ذلك أبو حيان في سياق كلامه عن العزيز].. ثم قال: «وأين هذا مما جرى لبعض ملوك بلادنا، وهو أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنسه، وجاريته تُغنِّي من وراء الستارة، فاستعاد بعض جلسائه بيتين من الجارية (وكانت قد غنَّت بهما)؛ فما لبث حتى أُتي برأس الجارية مقطوعاً في طشت، وقال له الملك: اِسْتَعِد البيتين من هذا الرأس؛ فسقط ذلك الرجل المُسْتعيد، ومرض مدة حياة ذلك الملك».. والخبر في تفسير أبي حيان البحر المحيط 6/ 262- 263 / نشر مصطفى الباز بمكة المكرَّمة، وقد عَلَّق به على قول الزمخشري: (وما كان العزيز إلا حليماً.. رُوِي أنه كان قليل الغَيرة)، ثم عَقَّب ابن أبي حجلة على القصة بقوله: «قلت: لو مات كان معذوراً؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. ومثل هذا أيضاً ما فعله جعفر بن سليمان؛ وذلك أنه لما اشترى جاريته الزرقاءَ وكانت جارية نفيسة غالية الثمن، وهي بثمانين ألف درهم، وكانت من الفتيات الحسان ذوات الألحان؛ فقال لها يوماً: هل ظفر منك أحد ممن كان يهواك بخلوة أو بقبلة؟.. فخشيت أن يبلغه شيء كانت فعلته بحضرة جماعة، أو يكون قد بلغه؛ فقالت: لا والله إلا يزيد بن عون العبادي قبَّلني وقذف لي لؤلؤة بعتها بثلاثين ألف درهم.. فلم يزل جعفر يطلبه ويحتال له حتى وقع في يده فضربه بالسياط حتى مات».
قال أبو عبدالرحمن: قصة الزرقاء كِذْبةٌ [كسر الكاف للدلالة على التسمية، وليس دلالة على المفردة الواحدة] صلعاء ذات نفس باطني ضِدَّ جعفر بن سليمان الذي هو ركن من أركان الدولة العباسية، وقد أنهك الثُّوار عليها من العلويين هو وأخوه محمد.. وسياقها المُتضارب في الأغاني لأبي الفرج، ويأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، وذكر أبو العباس أحمد بن محمد بن خلكان [608 - 681هـ] في وفيات الأعيان 3/ 186- 188/ دار صادر ببيروت بتحقيق الأستاذ الدكتور إحسان عباس رحمهما الله تعالى أن الجارية التي يهواها ديك الجن اسمها (دنيا)، وأنه قتلها لما اتهمها بغلامه وصيف، وأنه ندم وأكثر التغزل فيها ثم ذكر الأبيات وآخرها:
لكن بخلتُ على سواي بحسنها
وأنفتُ من نظر الغلام إليها
وذكر أربعة أبيات أولها:
جاءَتْ تَزُورُ فِراشي بَعْدَمَا قُبِرَتْ
فَظَلْتُ أَلْثُمُ نَحْراً زَانَهُ الجِيدُ
وذكر ثلاثة أبيات أولها:
بأبي نَبَذْتُكَ بالعراء المُقْفِرِ
وسترتُ وجهك بالتراب الأعْفَر
وقدَّم للأبيات بقوله: «وله [أي ديك الجن] فيها، وقيل إن هذه الأبيات لها في ولدها منه، واسمه رغبان».. ثم قال: « ويروى أن المُتَّهم بالجارية غلام كان يهواه فقتله أيضاً»، وذكر ستة أبيات في رثائه أولها:
أشفقتُ أن يرد الزمان بغدره
أو أُبتلى بعد الوصال بهجره
ثم قال: فصنعتْ أخت الغلام:
يا ويح ديك الجن يا تبَّاً له
مما تضمَّن صدره من غدره
قتل الذي يهوى وَعُمِّر بعده
يا رب لا تمدد له في عمره
وقد ذكر أبو بكر الخرائطي في كتابه ( اعتلال القلوب ) حديثه وشعره».
قال أبو عبدالرحمن: لا جديد عند الخرائطي[ وهو محمد بن جعفر بن سهل (240 - 327 هـ) ] رحمه الله تعالى، وكل ما ذكره القصيدة اليائية بوصل الهاء، والرائية بوصل الهاء، وقصتهما على نحو ما ذكره ابن قيم الجوزية في روضة المحبين.. روى ذلك علي بن عبدالله الأنماطي: عن جماعة من شيوخ حمص.. أفدت ذلك من كتاب اعتلال القلوب نسخة الخزانة العامة بالرباط، ثم طبع الكتاب بعنوان (اعتلال القلوب في أخبار العشاق والمحبين) بتحقيق غريد الشيخ ط دار الكتب العلمية ببيروت/ الطبعة الأولى عام 1421هـ.. انظر ص212 - 213، وانظر ص291 - 292 عن أربعة أبيات بائية لا علاقة لها بالموضوع، وكلُّ ذلك بعد وفاة ديك الجن بقرن، وقد فَرَطَتْ هذه الطبعةُ من يدي، فحصلتُ على طبعة سقيمة بتحقيق حمدي الدمرداش/ مكتبة نزار مصطفى الباز بمكة المكرمة/ طبعتهم الثانية 1421هـ، وهذا هو نصه كاملاً 2/ 359-361: «حدثنا علي بن عبدالله الأنماطي قال: حدثني جماعة من شيوخ حمص قالوا: كان عبدالسلام بن رغبان الملقب بديك الجن شاعراً أديباً ذا نعمة حسنة، وكان له غلام كالشمس، وجارية كالقمر، وكان يهواهما جميعاً؛ فدخل يوماً منزله فوجد الجارية معانقةً الغلامَ تقبله؛ فشدَّ عليهما فقتلهما، ثم جلس عند رأس الجارية، فبكاها طويلاً ثم قال:
يا طَلْعَةً طَلَعَ الحِمامُ عليها
وجنى لها ثَمَرَ الرَّدى بيدَيها
إلى أن قال:
لكن بخلتُ على سواي بحسنها
وأنفتُ من نظر الغلام إليها
قال أبو عبدالرحمن: وهكذا يجري سياق الأُسطورة باختلافٍ كثير في أسماء أبطال الحدث، وفي الأسباب، وفي تناقض الشعر مع الأسطورة، وفي الزيادة والنقص؛ فههنا اسم الجارية ( دنيا )، واسم الغلام ( وصيف )، والقصة عن اتهامها بالغلام، والشعر عن ( نظر الغلام ).. وفي الشعر أيضاً أنها زارته بعد أن قُبرِتْ؛ فهي إذن في القبر لم تكن كوزين من رماد!!.. واستجدَّ أن لديك الجن ابناً من الجارية اسمه ( رغبان ) وليس في قصة الكوزين شيء من هذا.. ثم ذكر رواية أخرى أنه قتل الغلام؛ لأنه اتَّهمَه بالجارية، مع أن الشعر الذي أورده لا ينطق بذلك؛ وإنما خاف من غدْرِ الغلام بالجفاء والهجر، وههنا نجد أن التي وَبَّخت ديك الجن أختُ الغلام لا أختَ الجارية!!.. وفي سياق الخرائطي نجد الرثاء للجارية دون الغلام، وهو قتل الغلامَ لأنه وجدهما مُتعانقين، وفي الشعر أن سبب القتل أَنَفَتُه من نظر الغلام إليها لا غير.. والقصيدة اليائية بوصل الهاء رواها أبو القاسم عبدالرحمن بن القاسم الزجاجي [- 337 هـ] في أماليه ص 64 - 65 / دار الكتاب العربي / طبعتهم الثانية 1403 هـ - وهي طبعةٌ من وريقات، والكتاب أكبر من ذلك بكثير، ويقوم الآن الدكتور محمد خير البقاعي بتحقيقه كاملاً -: عن شيخه أبي إسحاق إبراهيم بن السَّرِيِّ الزجاج [ ـ 311 هـ]: عن أبي العباس المُبَرِّد [ 210 - 285 هـ ] رحمهم الله تعالى، وآخرها:
لكن بخلتْ عليَّ العيونُ بلحظها
وأنفتْ من نظر العيون إليها
فضبطت تاء بخلت وأنفتْ بالسكون، ونون العيون بالضم، وهو ضَبْطُ تشكيل لا تنصيص، وهو مُخِلٌّ بالوزن، وهكذا كلمة ( عليَّ ) مع فساد المعنى، والصواب ضبط التاءين بالضم، و( على ) هي الحرفية لا المكوَّنة من حرفٍ مع ياء المتكلِّم، ونونَ العيونَ بالفتح.. وهذا التشكيل الخاطئ من عمل الناشر، وليس هو رواية المُبَرِّد الإمام، وليس في القصيدة ذِكْر قتل الغلام، ولا قصة الكوزين.. ولولا أن الشعر والقصة رُوِيا قبل أن يكون لديك الجن وجود أدبي لكانت رواية المُبرِّد هي المعتمدة.
قال أبو عبدالرحمن: لم يطبع ديوان ديك الجن عن نسخة خطية بخطِّ أو إملاءِ الشاعر، أو نسخة من خط معاصر له، أو نسخة مَعْزُوَّةٍ إليه بالسند المتصل.. وأشار الأستاذ هلال ناجي إلى نسختين خطيتين مفقودتين: الأولى ما اطلع عليه السري الرفاء -وهو من رجال القرن الرابع الهجري-؛ فقد قال في كتاب المحبوب (1 - 59) عن قصيدة للعباس بن الأحنف: (وقد قرأتها في ديوان ديك الجن، والعباس أولى بها).. والثانية صنعة علي بن محمد بن المطهر العدوي الشمشاطي المتوفى في أواخر القرن الرابع الهجري حسب مقدمة كتاب الأنوار ومحاسن الأشعار بتحقيق الدكتور السيد محمد يوسف.. ويبعد أن تكون نسخة السري المتوفى عام 312هـ هي ما صنعه الشمشاطي المتوفى سنة 380هـ؛ لأن ديك الجن ولد عام 161هـ، وتوفي سنة 235 (وقيل: سنة 236هـ.. وقيل سنة 240هـ)؛ فنسخة السري قريبة من عصر المؤلف، وهو أقدم من الشمشاطي.. والصنعة تعني الرواية، أو الشرح، أو الترتيب، أو كل ذلك؛ فمن المحتمل أن الشمشاطي جمع ديوان ديك الجن استئنافاً من المصادر، أو وصل إليه بالرواية والسند، أو شرح نسخة خطية (نسخة السري، أو غيرها).. ونقل الأستاذ هلال ناجي عن وفيات الأعيان لابن خلكان، ومرآة الجنان لليافعي: أن ضياء الدين ابن الأثير (وهو من رجال القرن السابع) جمع المختار من شعر أبي تمام والبحتري وديك الجن.
قال أبو عبدالرحمن: لم أجد خبر البرنية عند غير الصفدي وابن أبي حجلة وداوود الأنطاكي [انظر تزيين الأسواق ص292 - 293. والوافي بالوفيات 18/ 423 - 424]، وتدوين أسطورة البرنية متأخِّر عن الحادثة بعقود: إما من مأثورات أسطورة بحبكِ علاقاتٍ بينها، وممَّن ذكر أسطورة البرنية ابن حجلة (وهو معاصر للصفدي) في كتابه (قرع سن ديك الجن)، وكتابه (مرآة العقول)، وكتابه (ديوان الصبابة)، وقد يكون تلقَّفها بالرواية الشفهية.. وإمَّا من سيرٍ شعبية أسطورية لم تصل إلينا.. وأَمَّا القصة بدون البرنية فمشهورة باستفاضة.. إلا أن منشأ الاستفاضة عن أسطورة!!.. وقد ذكر أبو الفرج الأصفهانيُّ في كتابه الأغاني 14-53: أنه نقل الحكاية من كتابٍ لمحمد ابن طاهر [ـ 298 هـ] أمير خراسان، وأن ابن طاهر نقل الحكاية عن أبي وهب الحمصي - ابن أخ لديك الجن -.. قال [14 / 56- 59 ]: « وكان عبدالسلا م قد اشتهر بجاريةٍ نَصْرانيَّةٍ من أهلِ حمْص هَوِيها، وتمادى به الأمرُ حتى غلبتْ عليه وذهبتْ به؛ فلمَّا اشتهر بها دعاها إلى الإسلام ليتزوّج بها، فأجابته؛ لعلمها برغبته فيها، وأسلمتْ على يده؛ فتزوَّجها، وكان اسمها وَرْداً ففي ذلك يقول:
انظر إلى شمسِ القُصورِ وبَدْرِها
وإلى خُـزَامَاها وبَهْجَـةِ زَهْرِها
لم تَبْلُ عينُك أبيضاً في أسـوَدٍ
جَمَع الجمالَ كوَجْهِها في شَعْرِها
وَرْدِيَّـةُ الوَجَنات يَخْتَبِر اسمَها
من ريقِـها مَنْ لا يُحيط بخُبْرِها
وتمايلـتْ فضَحِكْتُ من أَردافِها
عَجَباً ولكنِّي بَكيْتُ لِخِصْرِهـا
تَسْقيك كأْسَ مُدَامةٍ من كَفِّها
وَرْدِيَّةً ومُدامةً من ثَغْرِها
[ قلت: هذه القصيدة جميلة، ولا سيما ما قبل البيت الأخير.. ثم قال أبو الفرج « قال [ أي ابن الطاهر ]: وكان قد أعسر واختلَّت حالُه؛ فرَحَل إلى سَلَمِيَّةَ قاصداً أحمدَ بن عليِّ الهاشميِّ؛ فأقام عنده مُدَّةً طويلة.. وحَمَل ابنَ عَمِّه بُغْضُه إيَّاه - بَعْد مودَّته له، وإشفاقِه عليه؛ بسبب هجائه له - على أنْ أذاع على تلك المرأة التي تزوَّجها عبدُالسلام أنها تهوَى غلاماً له، وقرَّر ذلك عند جماعة من أهل بيته وجيرانه وإخوانه، وشاع ذلك الخبرُ حتى أتى عبدَالسلام [ أي وصل الخبرُ إليه ]؛ فكتب إلى أحمد بن عليٍّ شعراً يستأذنه في الرجوع إلى حِمْص، ويُعْلمه ما بلَغه من خبر المرأة من قصيدة أولها:
إن رَيْبَ الزمان طال انتكاثُه
كَمْ رمتني بحادثٍ أحداثُهْ
يقول فيها:
ظَبْيُ إنسٍ قلبي مَقِيلُ ضُحَاهُ
وفَؤادي بَرِيرُهُ وكَبَاثُهْ
وفيها يقول:
خِيفَةً أن يخونَ عَهْدِي وأن (م م)
يُضْحِي لغيري حُجُولُه ورعاثُهْ
ومدح أحمد بعد هذا بقصيدته - وهي طويلة -؛ فأذن له فعاد إلى حمص.. وقدَّر ابنُ عمِّه وقتَ قدومه؛ فأرصد له قوماً يُعْلمونه بمُوافاته بابَ حِـمْص؛ فلمَّا وافاه خرج إليه مستقبلاً ومعنِّفاً على تمسُّكه بهذه المرأة بعد ما شاع من ذكرها بالفساد، وأشار عليه بطلاقها، وأعلمه أنَّها قد أحدثتْ في مَغِيبِه حادثةً لا يجملُ به معها المُقامُ عليها، ودسَّ الرجل الذي رماها به، وقال له: إذا قدم عبدالسلام ودخل منزله فقف على بابه كأنك لم تعلم بقدومه، وناد باسم وردٍ؛ فإذا قال: من أنت؟.. فقل: أنا فلان.. فلما نزل عبدالسلام منزله، وألقى ثيابه: سألها عن الخبر، وأغلظ عليها؛ فأجابته جواب من لم يعرف من القصة شيئاً.. فبينما هو في ذلك إذ قرع الرجلُ الباب، فقال: من هذا؟.. فقال: أنا فلان.. فقال لها عبدالسلام: يا زانية: زعمتِ أنك لا تعرفين مِن هذا الأمر شيئاً؟.. ثم اخترط سيفه فضربها به حتى قتلها، وقال في ذلك:
ليتَني لم أكُنْ لِعَطْفكِ نِلْتُ
وإلى ذلك الوِصالِ وصلتُ
فالذي مِنِّيَ اشْتملْتُ عليهِ
أَلِعَارٍ ما قَدْ عليه اشتملتُ
قال ذو الجهل قد حَلُمْتَ ولا (م م)
أعلم أَنِّي حَلُمتُ حتى جَهِلتُ
لائمٌ لي بجهلهِ ولماذا
أنا وَحْدي أحببتُ ثم قتلتُ
سوف آسَى طولَ الحياة وأبكيكِ
(م) على ما فعلتِ لا ما فعلتُ
[ البيت الثاني معقَّد، والقصيدة نثرية لا جمال فيها.. ثم قال أبو الفرج ]: وقال فيها أيضاً:
لَكِ نفسٌ مُـواتِيَةْ
أيّها القلب لا تَعْدُ
ليس بَرْقٌ يكون (م م)
خُنْتِ سِرِّي ولم أخنك
والمَنَايَا مُعَادِيَة
بِهوَى البيضِ ثَانيَة
أخلب من بَرْقِ غانِيَة
(م) فمُوتِي عَلانِيَة
قال: وبلغ السلطانَ الخبرُ فطلبه؛ فخرج إلى دمشق؛ فأقام بها أياماً، وكتب أحمد بن علي إلى أمير دمشق أن يُؤَمِّنَهُ، ويَـحْمل عليه بإخوانه يستوهبوا جنايته [ أي يحمل إخوانَه على أن يهبوه جنايته؛ فلا يطالبوه ]؛ فقدم حمص، وبلغه الخبر على حقيقته وصحته واستيقنه؛ فندم ومكث شهراً لا يستفيق من البكاء، ولا يطعم من الطعام إلا ما يُقيم رمقه.. وقال في ندمه على قتلها:
يا طلعةً طلع الحِمامُ عليها
وجَنَى لها ثمَرَ الرَّدى بِيَدَيْها
إلى آخر القصيدة، ثم قال النَّص الذي أوردته سابقاً «وهذه الأبيات تُروى لغير ديك الجن».
قال أبو عبدالرحمن: هذا النص هو الأصل الذي بنى عليه شكسبير مسرحية (عُطيل) كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وسياق القصة لا يتَّفق مع سياق القصيدة وتعليلاتها، فهو قتَلَها للخيانة؛ فلا مجال للمدامع المذكورة في القصيدة، وإنما تكون المدامع بعد اكتشافه أن الخبر كاذب.. ومقطوعتاه التائيَّة، واليائيَّة بوصل الهاء قالهما وقت الحادثة غير يائس عليها، وهذا بخلاف جوِّ القصيدة الأخيرة (وهي اليائية بوصل الهاء والألف).. والبيت الأخير في القصيدة الأخيرة علَّل القتل بالغيرة من نظر الناس إليها بينما المقطوعتان الأُوْليان عللتا بالعار والخيانة.. إن الدلالة الصريحة من الأبيات الأخيرة أنه قتلها خوفاً عليها من نظر العيون - على فرض صحة نسبة الشعر إليه -؛ فهو يغار لذلك.. وقد يتكلف متكلِّف ويقول: (بل خاف عليها من وقوع شيء لم يقع بعد)، ونحتمل هذا التكلُّفَ، ولكنَّ القصيدة لا تحتمل أدنى دلالة على أنه قتلها لعار وقع، أو لشك فيها عنده.. بينما شعره فيها بعد قتله لها: إما شيء قاله قبل أن يعلم أنها بريئة وإما شيء قاله بعد قتله إياها وعِلْمه أنها خانته فِعْلاً؛ فهو يتوجَّع لها مما فعلت هي لا ما فعل هو، ولا ينسى التصريح بخيانتها لقوله كما في الأغاني 14 -61- 62):
قلْ لِمَن كان وجهُه كضياء الشمس
(م) في حُسْنِه وبَـدْرٍ مُنـيرِ
كنت زَيْنَ الأحياء إذ كنتَ فيهمْ
ثم قَدْ صرْتَ زَيْنَ أهلِ القُبورِ
بأبي أنت في الحياة وفي المَوْت
(م) وتحتَ الثرى ويوم النُّشورِ
خُنْتَني في المَغِيب والخَوْنُ نُكْرٌ
وذمِيمٌ في سالفاتِ الدُّهورِ
فشفاني سَيْفي وأسْرعَ في (م م)
حَزِّ التَّراقي قَطْعاً وحَزِّ النُّحورِ
قال أبو عبدالرحمن: هذا الشعر النثري العادي على أنها في القبر، وليست رماداً في الكوزين، وأورد أبو الفرج في الأغاني 14/ 61-64 شعراً في رثائها فمن ذلك القصيدة التي أولها :
ما لامرِئ بِيَدِ الدَّهْرِ الخَؤونِ يدُ
ولا على جَلَدِ الدُّنيا له جَلَد
وكذلك القصيدة التي أولها:
أما آن للطَّيْفِ أن يأتِيَا
وأن يَطْرُقَ الوَطَنَ الدَّانِيَا
ثم قال أبو الفرج: «ونسخت من هَذَا الكتاب [ يعني كتاب ابن طاهر]: ثم قال: « كان ديك الجن يهوى غلاماً من أهل حمص يقال له: ( بكر )، وفيه يقول: وقد جلسا يوماً يتحدثان إِلَى أن غاب القمر:
دع البدرَ فليغرب فأنتَ لنا بدرُ
إذا مَا تجلَّى من محاسنك الفجرُ
إذا مَا انقضَى سِحْرُ الذين ببابلٍ
فطرفُكَ لِي سِحْرٌ وريقُك لِي خمرُ
ولو قيل لي قُمْ فادْعُ أحسنَ من ترى
لصِحتُ بأعلى الصوت يَا بَكْرُ يَا بَكْرُ
قَالَ [يعني ابن طاهر.. وغير مستغرب على ديك الجن هذا الغزل القبيح وهو شعوبي باطني ماجن عربيد]: « وكان هَذَا الغلام يعرف ببكر بْن دهمرد.. قَالَ: وكان شديد التمنُّع والتصوُّن، فاحتال قومٌ من أهل حمص فأخرجوه إِلَى مُتَنَزَّهٍ لهم يعرف بميماس، فأسكروه وفسقوا به جميعاً، وبلغ ديكَ الجن الخبرُ فَقَالَ فِيهِ:
قُلْ لهضِيم الكَشْحِ مَيَّاس
انْتَقَضَ العهدُ من النَّاسِ
يَا طلعةَ الآس التي لم تَمِدْ
إلا أَذَلَّتْ قُضُبَ الآس
وَثِقْتَ بالكأس وشُرَّابها
وحَتْفُ أمثالِك فِي الكاس
وحال مِيماسُ ويا بُعْدَ ما
بين مُغِيْثَيْكَ وميماس
تَقطيعُ أنفاسِك فِي أثْرِهِمْ
ومَلْكِهِمْ قَطَّعَ أنفاسي
لا بأس مولايَ عَلَى أنها
نهايةُ المكروهِ والباسِ
هي اللَّيالي ولها دولةٌ
ووحشة من بعد إيناسِ
بَيْنَا أنافتْ وعَلَتْ بالفَتَى
إذْ قيل حَطَّتْه عَلَى الرَّاس
فَالْهُ ودَعْ عنكَ أحاديثَهم
سَيُصْبِحُ الذَّاكِر كالنَّاسِي
[ قال أبو عبدالرحمن: إذن ديك الجن لم يقتل الغلام، ورضي بالشَّراكة، وقوله: (سيصبح الذاكر كالناسي) كقول العامة في نجد (مشقوق العباة) كناية عن الذي لا يلحقه عيب بخلاف ذات الحجاب؛ وعلى هذا يمتنع في التصور أن يقتل ديك الجن جارية أو غلاماً من أجل الغيرة!!.. ثم قال أبو الفرج ]: «وقال فيه أيضاً:
يَا بكرُ مَا فعلتْ بكَ الأرطالُ
يَا دارُ مَا فعلتْ بكِ الأيامُ
فِي الدارِ بَعْدُ بَقِيَّةٌ نستامُها
إذ ليس فيكَ بَقِيَّةٌ تُستام
عَرِمَ الزَّمانُ عَلَى الدِّيار بِرَغْمِهِمْ
وعليكَ أيضاً للزَّمان عُرَامُ
شَغَلَ الزَّمانُ كَراكَ فِـي ديوانه
فَتَفَرَّغتْ لِدَواتِك الأقلامُ
قال أبو عبدالرحمن: إذن أصبح الغلام شبحاً بعد كثرة الشـراب وكِبِرِ سِنِّه؛ فهو ذكرى عابرةٌ لن يأسى إليه إن مات حَتْفَ أنفه!!.. فبربكم كيف عاد الغلامُ شاباً يُعانق الجارية، ثم يقتلهما معاً، ويصنع من رمادهما كوزين؟.. إن عناصر الصدق تخون في الأسطورة؛ فيضيع الترابطُ كأحلام من شبع نوماً وتثاقَل بين النوم واليقظة، فتنقاد له أحلامٌ أدبية ممتعة غير مترابطة؛ فإذا قام مِن نومه على وقعها لم يجد في الغربال إلا شذرات ليس بينها وشائج.. ثم ذكر أبو الفرج قول ديك الجن في الغلام: « وقال فيه أيضاً:
قُولا لِبَكرِ بْن دهْمرْدٍ إذا اعتكرتْ
عَسَاكِرُ اللَّيلِ بين الطَّاسِ والجامِ
ألم أقُلْ لك إنَّ البغيَ مَهْلَكَةٌ
والبغيُ والعُجْبُ إفسادٌ لأقوام
قد كنتَ تَفْرَقُ مِن سَهْمٍ بغانيةٍ
فصِـرْتَ غيرَ رَميمٍ رُقْعَةَ الرامي
وكنت تَفْزَعُ مِن لَـمْسٍ ومِن قُبَلٍ
فقد ذَلَلْتَ لإسراجٍ وإلجامِ
إن تَدْمَ فَخْذَاكَ من رَكْضٍ فَرُبَّـتَمَا
أُمْسِـي وقلبي عليك الموجَعُ الدَّامي
قال أبو عبدالرحمن: هذا الشعر يبكي فيه ديك الجن غلامه وهو حَيٌّ، ويبكي سيرتَهما القبيحة بكنايات أقبح؛ فأدَّى به ما في كأس النحاس وجام الفضة من الخمرة، وطموحُه للغواني إلى أن يكون مركباً ذلولاً، ولم يكن رميماً بعد.. وديك الجن السَّدُومي يَبْكيه حَيّْاً؛ إذْ سيأتي إليه مُنْهكاً.. ولديك الجن مقطوعاتٌ شعرية جميلة جداً، وحِكَمٌ واعية بخلاف هذا النظم المَـيِّت بغضِّ النظر عن مجونه؛ فلو جُـمِع ديوانه وإن كان ضميمةً صغيرة، وَجُرِّد من هذه الأكاذيب - ولعلها مفتراة على ابن طاهر، وما عُرِفَ له تأليف قط -: لكان ذلك أزكى للديك أدبياً، وأَقْبِـحْ به سلوكاً ومُعْتَقداً.. وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.