قال أبو عبدالرحمن: لبعض رباعيات الخيام وجودٌ آخرُ في الفنِّ الغنائي، وهو عشر رباعيات أولها:
شَقَّتْ يدُ الفجرِ ستارَ الظلامْ
فانهَضْ وبادلْنيْ صَبُوحَ المُدامْ
وجاءت في الأداء الغنائي (حديث الغرامْ)، بدلاً من (صبوح المُدام).
فكمْ تُحْيينا له طلْعَةٌ
ونحن لا نَملك ردَّ السلامْ
وقد مَوْسَقها المُوسيقارُ الفذُّ رياض السنباطي، وأدَّتها صاحبةُ (الطير المسافر)؛ فأخفقتْ ولم يُكْتَب لها الخلود؛ فَلِمَ هذا الإفلاس والنص بريشة رامي، والمُمَوسق رياض، والمؤدي (سَلِمَتْ حُنْجُرَتُها من كُحٍّ وبُحِّ) ؟؟؟.. والجواب قد يكون بعيداً أو عَصِيّْاً، ولكنه عِندي حاضر ماثل من تجارِبي غير المأسوف عليها في أعوام الغفلة؛ لَـمَّا جعلتُ استماعي (لا مُجَـرَّد سماعي) موضوعاً علمياً فكريّْاً للدراسات الجمالية.. وهو جواب من وجُوه: أولها أن ريشةَ فنانٍ عبقريٍّ كأحمد رامي لا تكون ساحرة دائماً حتى يكون النَّص في معانيه المتألِّقة مثلَ نصِّ (حديث الروح) الذي انتقاه الصاوي شعلان، وأسبغَ عليهَ بريشته نِعْمَةَ الجمالِ الفني؛ فما كلُّ فكرةٍ، ولا كلُّ مُتخيَّل، ولا كلُّ معلومة: تتفاعل مع روح الفنان.. ألا ترى أنَّ أبا الطيب المتنبي أبا الشعراء وعمهم وأميرهم، وأن أبا تمام رائد الحداثة: كان الدَّفْق الموسيقي عندهم قليلاً جداً، فهو شبه معدوم؛ فانصرفت عنهما همة المُلَحِّنين منذ رَصْدِ أبي الفرج الأصفهاني إلى يومنا هذا، وهكذا تعاملوا مع الشعر الجاهلي إلا الغنائي منه كما في نماذج أبي الفرج في كتابه (الأغاني).. مع أنه يمكن انتقاء بُوَيتات من هنا وهناك تقبل التعاطفَ مع الموسيقار.. ورامي تألَّقت ريشتُه في أداء السِّت، لأن الرباعيات التي اختارها السنباطي والستُّ بانتقاء أوسع كان ذا صور ومعانٍ مُجَنِّحة، وإن كانت (حديث الروح) ذات معانٍ يَـهَشُّ ويَبُشُّ لها ذو الدين والخلق بمعيار الكمال.. وبعكس ما اخْتِير للطير المسافر فهو معانٍ ليس فيها صور فنية، ولا عطاء فكري؛ بل هو جُمَلٌ نثرية: إما خبرية، وإما تقريرية عن معانٍ مُستهلكة.. وريشة الفنان يابسةٌ تجاه هذا الهُزال، ويكفي أن تعود إلى الرباعية الأولى على الرُّغم من تغيير آخر الشطر الأول: فلن تجد ما يبهرك من تحفة علمية جديدة، أو فِكْرَةٍ نادَّة، أو تخيُّلٍ مُجَنِّح.. والوجه الثاني أن السنباطي وإن كان فَذّْاً مُرْتبطٌ نجاحُه بعطاء يكون بمثل ريشة الصاوي الشعلان أو ريشة أحمد رامي نفسه في الرباعيات التي تم اختيارها للست أو من قبل الست؛ وذلك من جهة المُوسيقى الداخلية زيادة على ما في الشرط الأول.. والوجه الثالث أن السنباطي مرتبط نجاحه في الشعر ذي القافية الواحدة وفي الشعر ذي القوافي المُنوَّعة الذي يعتريه مثل ضرورة (/5///5) القبيحة.. وفي الشعر الفلسف: مرتبط نجاحه في كل هذا بطبقات صوتية - يعجز هو عن بلوغها - كالطبقات الصوتية عند الست مع طول النفس.. والوجه الرابع أن نجاح الموسيقار المُتميِّز يحتاج إلى الذوق الفني مع ميزة الطبقة الصوتية؛ فيجعل الأداء صورة للمضمون.. مع أنَّ الموسيقار صاحبُ الفَضْلِ الأول في ذلك، ولكنه لا يملك قدرة الطبقات الصوتية في التلاعب بتَموُّجات الصوت أفقياً ورأسياً، والقدرة على امتداده بطول النفس؛ وهذه الملكة هي التي تدحض بلا طولِ مُساومة زعم سارتر في كتابه (ما الأدب) أن الموسيقى لاتقبل التعبير.. والستُّ مع تقييدها بالنوتة تُفاجِئ السِّمِّيعَة بأنغام شجيَّة أو مُؤنسة خلاف ما هو محدَّد في النوتة من الأنغام في اللحن، وتفاجئُهم بترداد آخر شطر يكون له ثبات في بيتين أو أكثر؛ فلا يكون نشازاً؛ ولهذا فالنوتة الحقيقية هي ما أَدَّته الست بعد نوتة الموسيقار لا قبلها، وليست مُفاجآتُها قصداً يكون في بعضه مخالفة للنوتة يوحي بانتقادها النوتَةَ نَفْسَها؛ بل هو وعي فنِّي بموهبةٍ، وطولِ تجرِبة يأتي عفواً بلا قَصْد؛ بل بدافع قسريٍّ خَفِيٍّ من الوعي بصور المعاني بالأداء الغنائي، والوعيِ بتوصيله إلى العقول والقلوب.. وأما الطير المسافر العاجز عن قُدرات حُنْجُرة الست - والله جل جلاله مُقَسِّم المواهب - فيكفيها شعر زجلي قصير، وما هو مثل (يا ما جرح الورد أيادي، ووسط الطريق).. فإن ترقَّت إلى مثل (يا مَن يفكِّر في صمت) فالأشطر ذات وقفاتٍ كثيرة للتنفس، ويكون الجهد لطول النفس في آخر القافية مثل (تَعْنِيها).. وهو طول محدود وقصور في الطبقات الصوتية التي تُثري الأنغام داخل اللحن بالتموُّجات الصوتية، وتملأُ مخرج الحرف، وتُطيل النَّفس بالتأرجحات الأفقية الأربعة، والثِّنتين الرأسية عُلُوّْاً ونزولاً.. ويبقى للطير المسافر بعد هذا جمال الهمس بحنانه ودِفئه، ويبقى له من معاني الشعر ما بين قيس وليلى من أشجان بمشاعر عُذرية رومانسية كثيرة، أو مشاعر مكشوفة هابطة قليلاً مثل (وحيَّرتني ذراعي أين ألقيها)، أو مُتَـوَسِّطة قليلاً أيضاً مثل (لا تكذبي)، أو منحطَّة سافلة جداً مثل (أيظن).. وليس مثل هذا عند الست، وبهذه المناسبة أذكر أنَّ ما عُرف في تراثنا بأكاذيب الأعراب - وَهُم مَن هُم في الغَيْرة - يكون من دوافعه مُسامرة المُتَلَقِّي بجمال القبح؛ لأن ذلك القبح في نفسه يتحوَّل إلى جمالٍ فني في الإخبار عنه لا في استباحته؛ لأن تصويَره للمتَلقِّالغيورِ لا يتخيَّلُه المجتمع البدوي مهما كان يملك من خصوبة الخيال؛ ولأن ذلك المُتَخيَّلُ مِن المحال وجوده بالصورة الواردة في (أكاذيب الأعراب)، والإثارة في القصة لا في النصِّ نفسه ومن نماذج ذلك أكذوبة رؤبة بن العجاج، وهذا نصُّها على لسان أعرابي قدم من سفره فوجد امرأته قد ولدت غلاماً فأنكره، فقال لها:
لتَقْعُدِنَّ مَقْعَدَ القَصِيِّيْ
مِنِّيَ ذِي القاذُورَةِ المَقْلِيِّيْ
أَوْ تَحْلِفِي بِرَبِّكِ العَلِيِّيْ
أَنِّي أَبُو ذَيَّالِكَ الصَبِيِّيْ
قَدْ رابَنِي بالنَظَرِ التُّرَكِيِّيْ
وَمُقْلَةٍ كَمُقْلَةِ الكُرْكِيِّيْ
فقالت:
لاَ والَّذِي رَدَّكَ يا صَفِيِّيْ
مَا مَسَّنِي بَعْدكَ مِنْ إِنْسِيِّيْ
غَيْرِ غُلامٍ وَاحِدٍ قَيْسِيِّيْ
بعد امرأينِ مِنْ بَنيِ عَدِيِّيْ
وآخَرَيْنِ مِنْ بِني بِلِيِّيْ
وخمسة كَانُوا عَلَى الطَّوِيِّيْ
وسِتَّةٍ جَاءوا مَعَ الْعشِيِّيْ
وغَيرِ تُركيٍّ وَبَصْرويِّيْ
قال أبو عبدالرحمن: ينطبق على هذا مَثَلٌ عند العامة نصَّه: (ما فيها شْقيق لكنْ تِخِرّْ) يعنون القربة، فهذه كناية تهكُّمية؛ لأن الخرير أبلغ من النَّضح مِن شُقيق، والمأثور عن رؤبة أنه يأكل الفأر، وإنني لأستبعد هذا، ولو صح لَما استقبله الأمراء والكبراء والوجهاء، ولن يَسْهُل عليه دينه؛ فيأكل ما حرمه الله كتحريم أَكْلِ الفأر، فَلَعَلَّ هذا (إن صحَّ الخبر) محمول على الجُرْذي البرِّي، ففيه خلاف بين الفقهاء في الأهلي والبري كخنزير البر، والحمار الوحشي المُقَلَّم.. وكثير من المعاصرين يأكلون جرذي البر كما يأكلون الجربوع (اليربوع) مع أن النَّفْس السليمة العيوف تَكِعُّ عن كل هذا.. بل توسَّعُوا في أكل الثعابين بعد خلع نيبانها وتنظيف بطنها، وأكلوا القُنفذ المسكين المتواري في فروته، وتُسَمِّيه العامة (دْعَلَجْ)، وأكلوا أوتوبيس الرمل (الصِّقَنْقُور) من فصيلة السحالي بلا ذبح.. ولقد كنت آكلُ الضبَّ والأرنب بشَرهٍ، ثم كَعَّت نفسي عنهما فلا أطيق رؤيتهما على الطعام، والله إذا لم يُحَرِّم أشياء معلومة: فإن كلُّ نفس وما تشتهي، وليس المسلم ملزماً بأكْل كلِّ مباح؛ وإنما عليه اعتقاد الحِلِّ لا غير؛ فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يُحَرِّم الضَّبَ ولكنَّ نَفْسَه الكريمة عافَتْه.. وتوسعوا في أكل (الضَّبُع) بعد إزالة أمعائها فوراً، وهي سبع قذر مفترس ذو ناب تأخَّر تحريمه بالنص الصريح.. والمالكية يتوسَّعون في أكل الحيوانات، وقد توسعتُ في مُناقشة هذا ببحثٍ لي عن المذاهب تناولتُ فيه شرح قصيدةٍ للزمخشري في نوادر المذاهب.. والقاعدة أن ما حرمه الله نصّْاً على اسمه أو نصّْاً على معناه فلا يحلُّ للمسلم أن يستبيحه، وما أبيح ونفسه تعافه فلا يلزمه الأكل منه ولكن لا يعتقد تحريمه.. وهذا استطراد تَقَصَّدته؛ لأنني انْمَعْتُ مع الفنِّ في هذه الحلقة انمياعاً؛ فأخشى أن يقال: (عادت حليمة إلى عادتها القديمة)، وأُقسِمُ بالله ما قصدت استماع اللهو منذ تركتُه، ولا ارتحت لسماعه إن عرض لي، بل أتجاوزه أو أقفله إن كان ذلك بيدي.. ولكن ما حذقته من القيم الفنية الغنائية لن يَمحَّي من ذاكرتي إلا أن يشاء الله، وَأُغَذِّ ي به صدأَ النفس بعض المرات إذا رفعتُ عقيرتي بغناء مباح من غير آلة، ويكون لمحةً خاطفة في الشهر أو أكثر مرة، أو رحلة يطول درْبُها.
قال أبو عبدالرحمن: ومن الذين استلهموا الأسطورة الحِمْصِية عمر أبو ريشة.. قال الأستاذ عبداللطيف صالح عن كُوزَيْ ديك الجن (أسطورة البرنية): «استوحى أبو ريشة من معاني قصيدة ديك الجن ملامح تشير إلى سابقة [السياق عن سوابق؛ فالتعبير بسابقة قاصر] في تجربة إنسانية نجدها في الحياة..».. وقال: «استوحى عمر من موضوع الغَيْرة كما جسَّدها ديك الجن في قصيدته المأساوية مُعَبِّراً فيها عن تجربةٍ عايشها في الواقع؛ فلم نجد في شعره (أيْ شعرِ أبو ريشة) ذاك غير الصدى العادي للألم الذي تمخَّض عن تلك الفاجعة».. وقال: «لا نستطيع أن نقول: إن قصيدة أبو ريشة اقتباس محض..»[دراسات أدبية مقارنة ص 170 و172 ط دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والإعلام ببغداد عام 1994م].
قال أبو عبدالرحمن: صرَّح أبو ريشة في مقدمة قصيدته أنه يُـحاكي قصةَ ديك الجن؛ فهي إذن معارضة يُطلب فيها التطابُق في الحَدَث مع التفاوت في الأداء الفني.. وليس هذا اقتباساً يرِد خلال موضوعٍ آخر، بل المعنى واحد.. وليس أخْذاً من باب السرقات بِخُفْيةٍ يُراد فيه الإخفاء بقدرة فنية وتحوير.. والإخفاء يعني امتناع التطابق في المعنى، والمعارضة تعني علناً القدرة على التطابق مع التفوق فنياً في الأداء؛ وإذن فلم يستوح عمر من ديك الجن موضوعَه بخبرٍ يقينيٍّ، بل قرأ الأسطورة؛ فاستلهم منها ما هو معارضة، وشارك صانعَ الأسطورة في موضوع الغيرة الرحب وفلسفاته.. ولا معنى لقول عبدالمطلب عن عمر: «فلم نجد في شعره غير الصدى»؛ لأنه جعل الصدى نفسه موضوعه؛ وإنما العبرة بإضافته الفنية في الأداء، وإفادته من عموم أدبيات الغيرة وفلسفتها.. ولا معنى لنفي عبدالمطلب محضية الاقتباس؛ لأن الأمر كما أسلفتُ طرْحُ موضوعٍ مشترك للتجرِبة الفنية، وليس أخْذاً من موضوع في سياق موضوع آخر، ومن جهة المصطلح فالاقتباس لا يكون بهذا الكَمِّ.. أي لايكون أخذاً للموضوع كله.. وعن القيمة الفنية بين ديك الجن وعمر قال عبدالمطلب: «وهزت هذه المأساة الشعراء، وصوَّروها في شعرهم تصويراً: يأخذ بمجامع القلوب، ويثير اللوعة والأسى.. ومِن أبدع ما قيل في تصوير هذه المأساة (قصيدة الكأس للأستاذ عمر أبو ريشة) [دراسات أدبية ص 172]، وقال: «أما قصيدة عمر أبو ريشة فتتكون من سبعة مقاطع استطاع الشاعر خلالها أن يمنحنا صوراً فنية كاملة أكثر انسجاماً، ولقد قام الخيال عند (أبو ريشة) بدور فعًّال في إنضاج التجربة التي لا نعرف أن الشاعر خبرها في الواقع».قال أبو عبدالرحمن: قصيدة ديك الجن عاديَّة سوى تطعيمات بلاغية في الأسلوب، وهي حكاية سردية لحادثة؛ وإنما الإثارة قيمةٌ جمالية يرتاح لها القلب من جهة دفع المَلَلِ، وحصول النُّدرة وإن كانت مُؤْلِمة.. ودفع الملل والندرة قيمتان جماليتان، وقد بيَّنتُ في كتيِّبي (جدلية العقل الأدبي) أن هناك عناصرَ جماليةً خارجية ليست في النص الأدبي نفسه كما مَرَّ في أكاذيب الأعراب.. إن القيم الجمالية الساذَجة في مقطوعة ديك الجن بلمحاتٍ عادية من التعبير غير المباشر مثل (روَّى الهوى)، وبتعليلات فكرية عن فرط حبه على الرغم من قتله إياها، وذلك في البيتين الأخيرين.. مع سهولة اللفظ، وخلوِّه من التعقيد والجمال معاً.. وأما استجلاء القيم الفية من شعر عمر فلا أستعجل به حتى نسمع قصيدته كاملة.. قال: «يُروى أن ديك الجن الحمصي قتل جاريته الحسناء حُبَّاً بها [قال الأصمعي: حُبَّ بفلان الشاعر أتى بالمصدر وعُدِّي المصدر بالباء كما عُدِّي الفعل بالباء، والمصدر يعمل عمله، فاستعماله صحيح]، وغيرةً عليها، وَجَبَلَ [جبل بمعنى خلق، وليس ذلك إلا لله سبحانه.. ولولا أنه استعملها بالباء في صلب قصيدته لقلت: لعل الصواب جعل] من بقايا جثتها المحروقةِ كأسَه، وكان ينشد بين شربه وبكائه أبياتاً من الشعر:
أجريت سيفي في مجال خناقها
ومدامعي تجري على خَدَّيْها
روَّيت من دمها الثرى ولطالما
روَّى الهوى شفتي من شفتيها
ثم قال عمر أبو ريشة قصيدته هذه:
دعها فهذي الكأس ما
مرَّت على شفَتَيْ نديمِ
لي وقفة معها أمامَ
(م) الله في ظل الجحيم
قال أبو عبدالرحمن: غلبت الضرورةُ أبا ريشة؛ فقال (لي) والمراد (لكَ)، ثم قال:
دعها فقد تُشقيك فيها
(م م) لفحةُ البغي الرجيم
وتنفُّسُ الشبحِ الشقِيِّ
(م) على جُذى حب أثيم
ما لي أراك تطيل فيَّ
(م) تأمُّلَ الطَّرف الرحيمِ
أتخالني أهذي وخمري
(م م) صحوةُ القلب الكليم
[الميم (م) علامة تدوير البيت، وقد أكررها بمقدار الحروف التي يأخذها شطر من شطر]
اِشرب ولا تتركْ جراجَ
(م) السر تعوي في رميمي
***
كانت تُغنِّيني وكنتُ
أُحِسُّ بالنُّعْمى تُغَنِّي
هيفاء لم يبلغ مدى
إغرائها وهْمي وظني
كيف ارتضتْ دنياي دنياها
(م م م م) على قلقٍ وأمن
كيف استقتْ حبي وقصَّت (م م) فيهِ أجنحةَ التمنِّي
[ياء (فيهِ) بلا إشباع]
ما غرَّها مني وماذا
(م م) أبقتِ الأيامُ مني
الشَّيب مرَّ بلمتي
وأقام في عجزي ووهني
والشوق أحلامٌ مُخَضَّبةٌ
(م م م م) تموت وراء جفني
نادى هواها فالتفتُّ
(م) وما رددْتُ له جوابا
وشبابها الظمآن بين
يديَّ يستجدي السرابا
فوجمتُ مجروحَ الرجولة
(م م) أخفض الطرف اكتئابا
ورجعْتُ للأ كواب أملؤها
(م م م م) على غصص شرابا
وأعبُّها حُمَّى مِنَ (م)
الأهواء تصطخب اصطخابا
فإذا دمي في مثل وهْج
(م) الجمر يلتهب التهابا
والنجم أسطعُ وهْو يهْوي
(م م) عن سماوته اغترابا
***
مالتْ عليًّ وطرفها
في يأسه يتضرعُ
وعبيرُها ما سالَ من
صدر الربيع وأمتع
[أي أمتعُ مما سال من صدر الربيع]
فضممتها فتنهدتْ
غصصٌ وصُكَّتْ أضلعُ
هي نشوة لم يبْقَ لي
من بعدها ما يُطمعُ
[مجيئُ (يطمع) بدون معموله يُخالف الفصاحة، ولو قال (مِن بَعْدُ ما هَوُ مَطْمع) لكان أقوم.. ثم قال]:
كم ظبيةٍ قعدتْ بعبءِ
(م) جراحها تتوجعُ
لما رأتْ في خشفها
(م) الجوعَ الملحَّ يروِّعُ
[هاء (خشفها) مفتوحة يدخلُ مَدُّها الساكن في أداة التعريف من (الجوع)؛ فلزمت علامةُ التدوير]:
زحفتْ لترضعَه وماتت
(م م) وهْو باقٍ يرضعُ
***
نامتْ وخلْفَ نديِّ (م)
جفنيها حياةٌ تَحْلُمُ
طوراً تُقَطِّب حاجبيها
(م م) تارةً تتبسَّمُ
وعلى ارْتعاش شفاهها (م) م)
الحمراء بَوْحٌ مُبْهمُ
فدنوتُ أُصغي علَّها
في همسةٍ تتلعثم
ورجعْتُ خشْيةَ أن (م م م)
تطالِعُني بما لا أعلم
ورجعتُ أمشي القهقر
وجوانحي تتضرَّم
وعلى خطايَ أرى (م م م)
بقايا سلوتي تتحطَّم
***
نامتْ وجُنْحُ الليل جُنَّ
(م) وغيرتي الهوجاءُ غَضْبَى
أنا لن أعيش غداً فأُروي
(م م) قلبها الظمآن حُبَّا
[(أنا تُنطق بلا مَدِّ
[(أنا) تُنطق بلا مَدِّ هكذا: أَنَ]
من أين والدنيا طوت
أظلالها الفيحاءَ وثْبَا
قال أبو عبدالرحمن: الأظلال جمع الظل، ووزنه فِعْل وأفعال جمع قلة، وجمع الكثرة ظِلال وظُلول].
ومراكبُ الأ يَّام شقَّتْ
(م م) جبهتي درباً فدربا
نامتْ وأشباح الغد (م)
الباكي أدفِّعهنَّ رُعباً
أيضمُّ غيري هذه النُّعْمَى
(م م م م) متى وُسِّدتُ تُربا
وَيْحِيْ لقد جفَّ الرضا
رطباً وضاق الكون رُحْبا
[قال أبو عبدالرحمن: الرُّحب بضم الراء السعة، وهو مصدر الفِعل اللازم (رَحُبَ)ن والاسم الرَّحْب.. والرَّحْب بتشديد الراء المفتوحة.. والرُّحب بالضم كلاهما بمعنى الواسع].
***
قَبَّلتها والليل ينفض
(م م) عنه أسرابَ النجومِ
ومدامعي تجري وكفِّي
(م م) فوق خنجريَ الأثيمِ
هي وقفةٌ رعناءُ ضاق
(م) بِهَوْلها حِلْمُ الحليمِ
فحملتُ شِلْوَ ضحيتي
والنارُ حمراء الأديمِ
وجَبَلتُ من تلك الجُذى
كأسي ومن تلك الكلومِ
وغداً أحطِّمها أمامَ
(م) الله في ظل الجحيم
فاشربْ ودعها فهي ما
مرَّتْ على شفتيْ نديم
قال أبو عبدالرحمن: انظر ديوان عمر «أبو ريشة» /133-143 نشر دار العودة ببيروت عام 1998م، والقصيدة قائمة على آخر ما بلغته الأسطورة من نسيج.. أعني نسيج البرنية، أو الكوز من رفاتها.. والمقطع الأول تقريري مباشر مع تحديد المصير بظل الجحيم، وهذا يحتاج إلى رهافة حسٍّ ديني!!.. وما البغيُّ الرجيم سوى أنها رُفات آدمية قُتلت ظلماً.. والشبح شبحها هي، والحب الأثيم دعوى خيانتها.. ولا مجال لهذا؛ لأن البرنية والكأس الرفات كان بعد وفاتها، والعلمِ بأنها لم تكن ذات حب أثيم.. والذي في الديوان ضبط «تنفس» على أنها اسم مضاف، والسياق بعدها يُحتِّم أن تكون فعلاً؛ لأن الفعل تجسيد للشبح؛ ليكون قطب الرحى في الحوار.. أي (وتنفَّسَ الشبحُ)، والشبح فاعل؛ وذلك بدل (وتنفُّسِ الشبح) ليكون الشبح مضافاً إليه.. والبيت: «مالي أراك» من كلام الكأس، أوصاحب الكأس (الشبح).. ولا تَعْرِفُ بعد ذلك أن الكلام حوار، وأن القائل (الكأس) أو الكأس صاحب (الشبح) إلا بالاستنباط؛ وهذا ضعف في أدب يكون الحوار من عناصره الرئيسية [إنما تتعيُّن (الرئيسة) بلا ياء ثانية إذا كان العنصر واحداً].. والمقطع الثاني يبدأ بجواب ديك الجن صاحب الكأس؛ فالخمرة لا تسكره؛ لأن كأسها الرفات يقظةٌ دائمة؛ وتلك دعوى قامت على توهُّم الخيانة الذي أحدث القتل!!.. هكذا يقول الشبح (الضحية الذي رُفاته الكأس): اشرب.. وجراح السر هي نكبة الخبر الخفي المنظَّم عن خيانةٍ من بريئةٍ.. وهذا المقطع أقرب إلى الإيحاء الفني، وأبعد عن المباشرة التقريرية.. وفي المقطع الثالث يذكر ديك الجن ذكرياته مع الكأس قبل أن يكون رُفاتاً.. يوم كانت صاحبته الجميلة ضحية ديك الجن.. أراد بهذا المقطع أنه لا يستحق حبَّها، إلا أن الشاعر الكبير أبو ريشة ضاق عطنه عن تعميق هذا المعنى فكرياً، وإبداع لوحته فنياً.. وفي المقطع الرابع عاد يصوِّر هواها الجامح الذي فرغ من استعظامه، وأنه (أي أبو ريشة) كان نائباً عن الديك، وليس الديكُ أهلاً لهواها؛ فجعل شبابها الظمآن يستجدي السرابا!!.. فأيُّ شباب في الكأس الرفات؟!.. إن المسألة تذكُّر وتمثُّل؛ لهذا كان وِصاله في الكأس بما يَعبُّه من خمرة فيها حتى التهب دمه جمراً، وختم المقطع ببيت من حسن التعليل عن سطوع النجم، والواقع أن النجم أسطع لقربه منَّا لا لاغترابه!!.. وشرطُ حسن التعليل كون التعليل صحيحاً في نفسه مثل كون السيل حرباً للمكان العالي، ثم صحة العلاقة..جاء بمقطع خامس مُكَرَّر عن ذكريات العِناق بالحبيبة التي كان رُفاتها كأساً، وختم المقطع بموعظة لا علاقة لها بالموضوع ألبتة، وهو اختطاف المنون لظبي ما زال خشفها يرضع!!.. والمقطع السادس أيضاً تكرار ممل للذكريات.. وهكذا بقية المقاطع، ومع جمال قصيدة أبو ريشة في عمومها فلا أرى أن سذاجة الأسطورة تستحقُّ كلَّ هذه الإطالةَ والتكرار، وإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.