قال أبو عبدالرحمن: أسلفت أن النحت وحكاية الأصوات مِن عُمْقِ لغة العرب في المادة الرباعية، وعلى هذا المنهج المباح جرى رجال العلم على النحت كالفذلكة والكذلكة والبلكفة والأدْفقي والشختور.. ولا أعلم في لغة العرب أهل السليقة نحتاً من عدد من الكلمات يكون كلُّ حرفٍ رمزاً لمفردة إلا ما قيل عن نحت (الزَّرافة) مِن كلمات
فارسية، وأول مَن رأيتُه ذكر ذلك ولم يَعْزُه جُمَّاع متون اللغة إليه أبو عبد الرحمن محمد بن عبيد الله العُتْبي [- 228هـ] عفا الله عنه.. قال أبو العباس أحمد بن محمد ابن خَلِّكان [608- 681هـ] رحمه الله تعالى عن العُتْبي في وفيات الأعيان 4 / 400 / دار صادر بتحقيق الدكتور الأستاذ إحسان عباس رحمه الله تعالى: ((وروي عنه أنه كان يقول: الزرافة بفتح الزاي وضمها الحيوان المعروف، وهي متولدة بين ثلاثة حيوانات: الناقة الوحشية، والبقرة الوحشية، والضَّبْعان (وهو الذكر من الضباع)، فيقع الضبعان على الناقة.. وذلك في بلاد الحبشة؛ ولذلك قيل لها: الزرافة.. والزرافة في الأصل الجماعة؛ فلما تولدت من جماعة قيل لها الزرافة، والعجم تسميها (اشتر كاو بلنك)؛ لأن الأشتر الجمل، والكاو البقرة، والبلنك الضبع)).
قال أبو عبدالرحمن: لقد ذكره أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ [150 - 255هـ] في كتابه الحيوان 1/142-144، وانظر 7/241 وما بعدها / المجمع العلمي العربي الإسلامي ودار إحياء التراث العالمي ببيروت هذا القول، ولم ينسبه لأحد، وأطال الكلام وتصرَّف فيما قاله معاصره العُتبي.. ونقل جُمَّاع متون اللغة هذا الرأي عن أفراد بعد عصر العتبي.. قال الزَّبيدي - بالزاي المشدَّدة المفتوحة نسبةً إلى البلد - في تاج العروس 23 / 382-383: ((وهي مُسمَّاة باسم جماعةٍ.. فارسيتها (أُشْتُرْ كَاوْبَلَنْك) كما في الصحاح؛ لأن فيها مَشَابِهَ وملامحَ من هذه الثلاثة، وهي: أُشْتُر بالضم أي (البعير)، و كاو أي (البقر)، وبلنك (كَسَمَنْد) أي النمر؛ فهذا وجه تسميتها.. وقيل (كما في الصحاح): من زَرَّفَ في الكلام إذا زاد سُمِّيَتْ به؛ لطول عنقها زيادةً على المعتاد.. قال شيخنا [هو صاحب إضاءة الراموس]: قد اختلط النسل في الزرافة بين الإبل الوحشية، والبقر الوحشية، والنَّعَامِ.. وإنها متولدةٌ من هذه الأجناس الثلاثة كما قاله الزُّبيدي [هو الأندلسي، والزاي مُشدَّدة مضمومة نسبة إلى القبيلة] وغيرُه، وتعقَّبَ الجاحظ ذلك في كتاب الحيوان له، وأنكره، وبيَّن أغلاطَهم، وفيها كلامٌ في حياة الحيوان ومختصراته)).. ونقل محقق التاج الدكتور الحُلْو عن العباب للصاغاني رحمهم الله تعالى: (شترو كاو بلنك) بالجاف الفارسية.
قال أبو عبدالرحمن: هذا هو الصحيح، وقد بين الأستاذ عبدالسلام محمد هارون الوجه في ذلك بتحشيته على كتاب الحيوان 6 /452؛ فقال: ((كفتار بفتح الكاف بعدها فاء ساكنة فتاء، وفسرها استينجاس في ص 1037 بقوله: (Ahyena) أي الضبع.. وكذا وردت في كتاب السامي في الأسامي للميداني المتوفى سنة 518 هـ، وهو معجم عربي فارسي منه ثلاث نسخ بالمكتبة التيمورية (انظر ص 236 من النسخة رقم 24)، وفي الأصل: (كنعان) في المواضع الأربعة من هذا النص، تحريف.. وأما الأسد فهو بالفارسية (شير))).
قال أبو عبدالرحمن: التناسل من سِفاد أجناس الحيوان من الأساطير، ولا يمتنع أن يحصل ذلك في النادر موعظةً وعبرة من العليم القدير سبحانه، ولكن لا يُعْلم استمرار التناسل من هذا الخليط كزعم العامة في نجد أن (الكِدِيش) نسل حمار وفرس !!.. كما أن بِناء المفردة العربية مثل (زرف) على مفردات فارسية يرمز كل حرف عربي لكل مفردة فارسية: افتراء على العرب، وليس ذلك من سليقتهم ولا منهجهم، وجذر زرف من الزاي والراء والفاء كلمة عربية أصيلة تدلُّ في الحقيقة اللُّغوية على مسير الجماعة بسرعة في الزمن وعَجَلة في السير، ثم تفرَّعت معانيها بالمجاز كالتزريف بمعنى الزيادة في الكلام؛ لأن المادة تعني الكثرة؛ إذْ هي عن سُرْعة الجماعة، ومن ذلك جاء معنى الزيادة في الخَلْق؛ فسُمِّيت الزرافة.. والناقة الزَّروف هي طويلة الرجلين واسعة الخطْوِ تمشي على هِينِيَّتها، وذلك ضِدُّ معنى المادة في السرعة والعجلة.
قال أبو عبدالرحمن: الضِّدية لا تأتي في بناء المفردة من لغة العرب ألبتَّة؛ وإنما تأتي في موضعين ليسا من بناء المُفْردة: الأول التقاء مفردةٍ بعضُ معانيها من المُعَرَّب وبعضها من عُمْق لغة العرب، وسبق لي أن بينت وجود ذلك كمعاني (الجنس) العربية، ومعنى (الباءة) فليست من دلالة الجنس عند العرب، ولكنَّ المعنى الخواجي بالترجمة إلى اللفظ العربي دلَّ على غير المعنى العربي من الجنس وهو (الباءة)؛ فالمعنى المعرب بالمفردة العربية من اللغة الأجنبية، والمعنى العربي من المادة نفسها التقيا على معنيين مُتَضادَّين , فهذا لقاء بين لغتين من وجهين مختلفين؛ فيكون معنى الضِّدية من اللغة الأخرى.. وفي حكم ذلك دخول حرف البدل بين مفردتين، وفي حكم ذلك أيضاً اللُّغَيَّات المبنية على التَّوهُم؛ فيفهم الفردُ شاهداً على غير معناه الصحيح , أو يسمع كلام القبائل فيفهمه على غير وجهه , ويستعمله في قبيلته بفهمه الخاطئ؛ فيكون لُغَيَّة.. والثاني الالتقاء في نتيجة المجاز على صفة واحدة تقبل الضدية أو البعضية؛ فالصفة الواحدة أن السرعة والعجلة مَظِنَّة لِـمُخالفة القصد بزيادة أو نقص؛ فالنقص والزيادة معنيان متضادان؛ ولكنهما نتيجة صفة واحدة.. والبعضية أن من المعاني المجازية لمادة (زرف) الزيادة في الخِلْقة , والناقة الزروف زادت خِلْقَتُها بطول الرجلين وسعة الخطو؛ وهذا سببُ مَشْيِها على هِينِيَّتها؛ فجاءت الضدية البعْضية من حال الموصوف لا من معنى المادة.. ومما اشتَقَّه العلماء اكتساباً وليس من سليقة العرب في الرمز بالحرف عن شيئ ما عند أهل أصول اللغة وأهل التجويد مثل (قطبُ جدٍ) , و(سألتمونيها)؛ فهذه اصطلاحاتٌ تواضع عليها العلماء؛ فلا يُلتمس منها معنى الجذر؛ لأن المراعَى الرمز بالحرف لا مادة (قطب) في لغة العرب، وهكذا بقية المفردات التي بُنيت على حروف رامزة باصطلاح حادث.. وهكذا (الحنفشة) مع أنها ناقصة غير مرتبة زمنياً , ولو كنت الرامز لجعلتها (الحنْكَشْظِلِّـيَّة) فالحاء للحنفية , والكاف للمالكية , والشين للشافعية , والظاء للظاهرية , واللام للحنبلية.. وقدَّمتُ الظاهرية مع أن الإمام أحمد أقدم من داوود وإن كان معاصراً له رحمهم الله جميعاً؛ لأن المذهب الحنبلي لم يكن ذا أتباع معمولاً به إلا بعد تزحزح المذهب الظاهري من العراق وخراسان في القرن الرابع الهجري بعد أن أقام أبو يعلى المذهب من اجتهاد الحنابلة , ومن جمع الروايات امختلفة عن إمامهم؛ فكان عندهم في المذهب أكثر من قول , وأكثر من وَجْه , وأكثر من تخريج؛ ولهذا السبب أدرج كثير من العلماء الإمام أحمد رحمهم الله تعالى جميعاً في المحدثين ولم يَعدُّوا له أتباعاً يحملون مذهباً فقهياً لإمامهم، ومن هؤلاء العلماء الإمام محمد بن نصر المروزي وابن جرير وابن عبدالبر.. إلخ.
قال أبو عبد الرحمن: ولقد أسلفت شروط تحصيل الجذر الثنائي من المُفْردة , ووقفتُ عند الشرط الثاني الشامِلِ النحتَ والتعريب والإبدال وحكاية الصوت والرمز , وأزيد ههنا أنه إذا اشتُقَّ من النحت معنى مثل (الكذْلَكة) بمعنى تَعَدُدِ المُسَوِّغات لأمرٍ ما، وتقريرِ الاعتراف بمُساءَلَةٍ ما كقولك: ((فعلتَ كذا وكذا، وكذلك فعلتَ كذا وكذا، وكذلك جَرَّدت علينا كذا وكذا من أعدائنا، ومنحتهم كذا وكذا من المال)): فكلُّ هذا النَّحْتِ كناياتٌ أدبيةٌ لا علاقةَ لها بالجِذر الثنائي في مفردات اللغة؛ لأنه استعمال طارئ من كلمتين، وليس جذراً في مفرداتٍ مُسْتَقِلَّة سبق في وضعها المعروفِ بالاستقراء مراعاةُ معنى الجِذر، والكنايةُ لم تُلغ كون (كذلك) حرفاً واسماً.. ومثل ذلك الفذلكة من قولهم: (فذلك كذلك، وذلك كذلك)، ومثل ذلك أيضاً (بَلْكفة) بمعنى: (ادَّعى شيئاً بلا كيف)؛ فذلك معنى لُغَويٌ مولَّد بالنحت، ولا تُرَدُّ جذور المفردات اللغوية المُسْتَقِرَّة الثابتة إلى نحتٍ استجدَّ بالتوليد.. وقد تكون المُفْرَدَتان اللتان دخل على إحداهما حرفٌ من حروف المعاني كلمة واحدة مثل (كذا)؛ فهي في الأصل مُفْردتان من الكاف التي هي حرف تشبيه أو تمثيل، فهي حرف دلَّ في سياق الكلام على الاسم الذي هو شِبهٌ أو مِثْل؛ وذا اسم إشارة، ولهذه الدلالة في تركيب الكلام جاء اختلاف النُّحاة: هل هي حرف أو اسم ؟.. والصواب أنها حرف عامل بالوظيفة الإعرابية؛ وبالوظيفة الدلالية دلَّت على الشبه أو المثل؛ لأنها حرف من حروف المعاني تَحدَّد معناها في سياق الكلام بأنها حرف تشبيه أو تمثيل؛ لأن حروف المعاني لا معنى لها في أنفسها؛ وإنما تكتسب معناها من تركيب الكلام؛ فإذا قلتَ: (أكْرِم كزيد) فلا يعني ذلك أن الكافَ اسمٌ مفعولٌ به لأكرم؛ وإنما المفعول به مُقَدَّر هكذا: (أكرمْ رجلاً كزيد).. وتستعمل (كذا) بمعنى مفردة واحدة هي الكناية عن شيئ معلومٍ بدلالة التمييز، وذلك المَعْلومُ مجهولٌ عَدَدُه كقولك: (عندي لأخي كذا درهماً)؛ فكذا كناية عن عدد مجهول.. أي عندي له دراهم لا أذكر عددها سواء أكانت كثيرة أم قليلة.. ويُكنى بها عن غير العدد لمجهولٍ نُسي تحديدُه، أو لمعلوم لم يذكره استحياءً من ذِكره كقولك: (وتعلم أنك فعلتَ كذا وكذا)؛ فهذا كناية عَمَّا يُستحيا عن ذكره من قولٍ أو فعلٍ فاحش، ومثالُ ما نسيت تعيينه قولك: (كتبتُ البارحةَ كذا وكذا مسألةً علميةً، وذاكرنأستاذي أو تذاكرتُ مع صديقي كذا وكذا)، ويستحيل تمييزها بغير مجهولٍ غير مطلق؛ فما مضى من (فعلت كذا وكذا) يعني فعلت أمراً قبيحاً، وفي الباقي: (كذا مسألة علمية، وتذكرنا كذا حادثةً) كنايةٌ عن مسائل متنوِّعة.. ويُكنى بها عَمَّا لا يُراد كشفه لخوف أو غيره مثل قولك محيلاً المخاطَب إلى رجل معهود عنده بكلمة مبهمة مثل (فلان)، أو (ذلك الرجل) وهو ذو سلطة: (كيف تأمنه وقد أبديت له كذا، وأخبرت عنه بكذا، وواجهته بكذا)، ولا تذكر اسمه خوفاً من واشٍ ينقل الكلام إليه.. وأختم بكُليمة عن تكوُّنِ اللُّغَيَّات مُسْتَشْهِداً بواقع حيٍّ من لهجتنا العاميَّة، وهي كلمة (ذِيْخ)؛ فهي إرث عربي صحيح عام الدلالة، ولكنَّ معناها اليوم قاصر على الكلب؛ فلا تعرف العامة للذيخ معنى غير الكلب؛ فلا يقال: (هذه لغة عامية)، بل هي لغة فصيحة، ولكنها (لُغَيَّة) خَصِّصَتْ عمومَ الاستعمال، ومن أمثالهم الدالة على الاستبعاد والإحالة: (يا مَن عَيَّن الدهنة على خشم الذيخ).. وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان.