كلُّ مُفْرَدةٍ واحدة لها معانٍ في نفسِها بغضِّ النظر عن ارتباطها بسياق الكلام، وتَتَكَوَّن هذه المعاني مِمَّا نقله الرواة في متون اللغة من معاني المفردة مع ملاحظة رابطة المطابَقَةِ الجامعة (وذلك هو الحقيقةُ اللغوية)، ورابطةِ علاقاتِ توسيعِ المعاني بتشبيهٍ أو تضمُّن أو لزوم أو تعميم أو تخصيص (وذلك هو المجاز اللغوي)؛ فهذا أول معاني
المفردة التي نُسَمِّيها معاني المادة مثل معاني مادة (ذَكر)، ثم تأتي معاني الجذر الثنائي بتقليبِ حروف المادة، وملاحظة المعنى المُشْتَرك بدلالة الجذِرْ.. ثم تأتي ثالثاً دلالة الصيغة (الوزن) مثل (الذِّكر) بالذال المعجمة المُشَدَّدة المكسورة، و(الذَّكر) بالذال المشدَّدة المفتوحة.. وأما الدلالة الرابعة كالسياق والمعهود ومُقْتَضيات النحو والبلاغة فمجال ذلك تفسير (المُفْردة) في كلام مُرَكَّب، وليس هذا موضعَ حديثي الآن؛ لأنني أردتُ هذه المداخلة تقدِمةً لآيتين كريمتين هما قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (سورة الشورى/ 49 - 50)، فقد أشكل على أهل التفسير مجيئُ الذكور بالتعريف، ومجيئُ الإناث بالتنكير.. وفي بعض ذلك ما يَغِيظ (الجنس الألوف اللطيف العطوف)، وأشكل عليهم تقديم الإناث - وليس الذكر كالأنثى -، وأشكل عليهم الابتداء بالذكور في الآية الثانية من غير أداة التعريف.
قال أبو عبد الرحمن: كل الاحتمالات التي تَرِدُ حولَ معنى النصِّ الشرعي إذا كان النصُّ يقبل الاحتمالات بدلالة اللغة والنحو والبلاغة، ولم يمنع من صحة الاحتمالات مانع: فهو عِلمٌ يقينيٌ قطعيُّ بأن للنصِّ معنى أو معانيَ ليستْ مُغَيَّبة عن مدارِك المخاطبين، وأن كلَّ تلك الاحتمالات، أو بعضها لا يمتنع أن يكون من مراد الله سبحانه وتعالى.. إلا أننا لا نجزم على ما أراده الله بالتَّعْيين إلا بدليل؛ وإذن فكلُّ احتمالٍ يَصِحُّ بدلالة النص، ولم يَمْنَع من احتماله مانعٌ فهو استنباط مبرور: إن أصاب المراد ففيه أجران، وإن لم يُصب المراد: ففيه أجر واحد؛ بسبب صواب الاستنباط، وفيه مَعْذِرة ومَغْفِرة؛ بسبب إخطائه المراد.. ونرى في الواقع أن الله قد يهب الإنسان ذكراً واحداً وأنثى واحدة، أو ذكراً بلا أنثى، أو أنثى بلا ذكر؛ ولكن جاء جمع الذكور والإناث في الآيتين الكريمتين بالنظر إلى عموم مَن يهبهم الله النسل، وبهذا نرى القسمة الحاصرة تبدأ بذي نسل، وغير ذي نسل، وهو العقيم.. ثم ينحصر مَن وهبهم الله النسل في الأقسام التالية: فإما أن يكون النسل ذكراً، وإما أن يكون النسل أنثى، وإما أن يكون ذكراً وأنثى، وإما أن يكون ذكرين وأنثيين، وإما أن يكون ذكرين أو أكثر، وإما أن يكون أنثيين أو أكثر، وإما أن يكون أكثر أو أقل في المُثَنَّيْيْن.. ولا يحتمل العقل من الأقسام غير ذلك.
قال أبو عبدالرحمن: قبل استنباطِ ما هو مُحْتَمل لا بد من الرجوع إلى معاني المفردات في لغة العرب؛ لنكون على بيِّنة من صحة الاحتمالات أو ضَعْفها أو بطلانها.. وهذا ما سأفعله إن شاء الله ابتداء من معنى الذال المعجمة والكاف والراء: من جهة دلالة الجِذر الثنائي، ومن دلالة المادة نفسِها (وهي الذال المُعْجَمة، والكاف، والراء)، ومن دلالة الصيغة.. وَيُشْتَرطُ في الإفادة من الجذْرِ الثنائي شروطاً: أولها أن تكون أحرفُ المادة من بُنْية الكلمة لم يدخل عليها حرف من حروف المعاني ككاف التشبيه في (كذا)، ولم تكن منحوتة من كلمتين مثل (البَلْكفَةِ) المنحوتة من (بلا كيف).. والشرط الثاني أنْ لا تكون المُفْردةُ مُشْتَقَّةً من كلمة مُعَرَّبة؛ لأنها من لغة قوم آخرين، وليست من وضع اللغة العربية التي استقرَّتْ فيها دلالةُ الجذور باستقراء العلماء.. والشرط الثالث أن لا تكون المفردةُ مشتقةً من حكاية صوتٍ كالطقطقة والكشكشة، ولا تستفيد مفردات اللغة من الجذر الثنائي فيما اشْتُقَّ من حكاية الصوت؛ لأن دلالة الصوت خارجة عن وضع المفردات العربية، وأكثر ما يكون الاشتقاق من حكاية الأصوات ومن النحت في الرباعي.. والشرط الرابع أن لا يكون في المادة حرف مُبْدَل من حرف في مادةٍ أخرى، وحينئذ يكون الجذر في الكلمةِ المُبْدَلِ منها مستفيداً من جذر الكلمة المُبْدَلة مثل (كِذَّانه) المُبْدَلة من (كِثانة) لا العكس.. وأما البلكفة التي نحتها الزمخشري في الكشاف 2/115116 في تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة الأعراف/ 143).. قال الزمخشري عن إنكاره رؤية الله: ((ثم تَعَجَّبْ من المتسمِّين بالإسلام المتَسمِّين بأهل السنة والجماعة: كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً، ولا يغرَّنك تستُّرهم بالبلكفة؛ فإنه من منصوبات أشياخهم.. والقولُ ما قال بعض العدلية فيهم:
لجَمَاعَةٌ سَمَّوا هواهم سُنَّةً
وجماعةٌ حُمُرٌ لعمري مُوكفةْ
قد شبَّهوه بخلقه وتخوَّفوا
شُنَعَ الورى فتستَّروا بالبلكفة
وفي طبعة الكشاف 2/116/ دار الفكر طبعتهم الأولى عام 1403هـ (وجماعةٌ هم لعمري موكفة)، وهذا خلل في الوزن، وهذه الطبعة غير مُحقَّقة، وفي طبعة مكتبة مصر/ طبعتهم الأولى عام 1431هـ طبع الشعر على الوجه الصحيح إلا أن مُحقَّقه يوسف الحمادي في تحشياته مُعْتَزِليُّ المذهب.
وقد رد عليه ابن المنير في حاشيته (الإنصاف) بثلاثة أبيات، كما أورد أبو حيان في البحر المحيط 5/168 في تفسير الآية الكريمة شعراً للقاضي أبي بكر يحيى بن أحمد المُلَقَّب بخليل السكوني يَرُد على الزمخشري، قال أبو حيان: «وهو تفسير على طريقة المعتزلة [يعني الكشاف]، وسبٌّ لأهل السنة والجماعة على عادته.. وقد نظم بعض علماء السنة على وزن هذين البيتين وبحرهما.. أنشدنا الأستاذ العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بغرناطة إجازةً إن لم يكن سماعاً (ونقلته من خطه).. قال: أنشدنا القاضي الأديب العالم أبو الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني - بقراءتي عليه عن أخيه القاضي أبي بكر - من نظمه:
شبَّهتَ جهلاً صدرَ أمةِ أحمدٍ
وذوي البصائر بالحمير المؤكَفَةْ
وزعمت أن قد شبهوا معبودهم
وتخوفوا فتستَّروا بالبلكفة
ورميتهم عن نِبْعَةٍ سوَّيْتها
رمْيَ الوليد غدا يُمزِّق مصحفه
وجب الخسارَ عليك فانظر مُنْصِفاً
في آية الأعراف فهي المنصِفة
أترى الكليم أتى بجهل ما أتى
وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفة
وبآية الأعراف ويكَ خُذِلتُمُ
فوقفتمُ دون المراقي المُزْلفة
لو صح في الإسلام عَقْدكَ لم تقل
بالمذهب المهجورِ من نفي الصِّفة
إن الوجوه إليه ناظرة بذا
جاء الكتاب فقلتمُ هذا السَّفَهْ
فالنفيُ مختصٌّ بدار بعدها
لك لا أبا لك موعد لن تُخلَفه
قال أبوعبدالرحمن: هذا الردُّ في كتاب (التمييز لما أورده الزمخشري في كتابه من الاعتزال في تفسيره للكتاب العزيز) لأبي علي عمر بن محمد السكوني، ولديَّ صورةٌ من نسخةٍ خطية، ولا أدري هل طُبع الكتاب مُحقَّقاً أوْ لا، وقد أورد قصيدةَ عمِّ أبيه أبي بكر يحيى كاملة، وأكثر من ردَّ عليه الأشاعرة، والحقُّ في هذه المسألة إثباتُ رؤية الله يوم القيامة بلا تكييف، ونفي التكييف لا ينفي حقيقةَ الأمر المُغيَّب، ولكنه ينفي استظهارَ كيفيَّةٍ من العالم المشهود تكون شبيهةً أو مثيلةً.. كما أن مَن نفى الجهة وأنه لا يُشار إليه فقد تقَحَّم شططاً بِنَفْيِه ما ليس في الشرع نَفْيُ معناه.. ويلزم من هذا النَّفي بإطلاق أن الله غَيرُ محيط بالعالَم، وأننا أينما نُوَلِّي وجوهنا فَثَمَّ وجه الله.. ولقد كَثُر الردُّ على الزمخشري شعراً على قافيته وعلى غيرها، وذكر تلك القصائد ابن السبكي في مواضع من كتابه (طبقات الشافعية الكبرى)، وأحمد بن محمد المِقَرِّي في مواضع من كتابه (أزهار الرياض في أخبار عياض) إلا أن عنده حَشَوِيَّةَ الأخباريين وأكاذيب التصوُّف كقوله ص 74: «وقد حدَّث محبكم غير واحد عن الشيخ سيدي أبي محمد عبدالله العبدوسيِّ: أنه كان يَلْهَجُ بحديث (وقف عليه في بعض الكتب غير واحد): عن الشيخ سيدي أبي محمد: أن الله عز وجل بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه حتى آمنَا به صلى الله عليه وسلم؛ إكراماً لنبيه عليه السلام.. وكان العبدوسيُّ يستحسنه، ويُسرُّ به كثيراً [قال أبوعبدالرحمن: الله أكبر نتلقَّى الدين عن سيدي أبي محمد: عن الله جل جلاله مباشرة.. قبَّح الله هذا الافتراء.. ثم قال المِقَرِّي]: وقد أنشدني بعض أصحابنا للنميري السلوي:
وإن ابن طَلَّاعٍ روى أن أحمداً
رأى أبويه بعد ذوق المنيةِ
فأحياهما رب العباد فآمنَا
به ثم عادا مكرمين لتربةِ
قال أبوعبدالرحمن: أفهذه الرؤيا المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تدفع سورة تبت في عمه أبي لهب، أو تدفع إلقاء آزرَ أبي إبراهيم - وهو خليل الله عليه السلام - في النار كالذيخ ؟.. وهكذا يُبنَى تَدَيُّن أهل البدع على الأكاذيب وحسبنا الله ونعم الوكيل.. وتجليحة الزمخشري الاعتزالية داخلةٌ في عموم قول أبي حيان رحمه الله تعالى عن الزمخشري:
ويَشْتِمُ أعلام الأئمة ضِلَّة
ولا سيما أن أَوْلَجُوهُ المضايقا
والبيت من قصيدة طويلة لأبي حيان بديوانه ص324-328 تناول فيها الزمخشريَّ بإنصاف وانتصاف؛ فمِمَّا قاله منصفاً:
ودَعْ عنك تقليدَ الرجال فإنَّما
يقلِّدهمْ من كان أَنْوَكَ مائقا
ولا تَعْدُ عن كشَّافِ شيخِ زمخشرٍ
وكاشِفْ به بَاغي الكرامات خارقا
فكمْ بكْرِ مَعْنىً عزَّ منها افتراعها
لها ذهنُه الوقَّادُ أصبح فاتقا
كساها من اللفظ البديع مَلابِساً
فجرَّت ذيولاً للفخار سوامقا
لقد غاص في بحرٍ فأبدى جواهراً
ولولا اعتياد السبح قد كان غارقا
وراض له في العلم نفساً نفيسة
فقادت له أبيَّ المقادةِ آبقا
وكشَّفَ بالكشَّاف لا خاب سعْيُه
مُغَطَّى خبيَّات تبدَّتْ حقائقا
صدق أبوحيان، رحمه الله تعالى، ثم قال منتصفاً وصدق أيضاً إلا في شيء سأذكره:
فيثبت موضوعَ الأحاديث جاهلاً
ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا
ويشتم أعلام الأئمة ضَلَّة
ولا سيما أن أَوْلَجُوهُ المضايقا
ويُسْهِب في المعنى الوجيز دلالةً
بتكثير ألفاظ تُسمَّى الشقاشقا
يُقوِّل فيها اللهَ ما ليس قائلا
وكان مُحِبّاً في الخطابة وامقا
ويخطئ في تركيبه لكلامه
فليس لما قد ركَّبوه موافقا
وينسب إبداء المعاني لنفسه
ليوهم أغماراً وإن كان سارقا
ويخطئ في فهم القرآن لأنه
يجوِّز إعراباً أبى أن يطابقا
وكم بين من يؤتى البيان سليقةً
وآخر عاناه فما كان لاحقا
ويحتال للألفاظ حتى يُديرها
لمذهب سوءٍ فيه أصبح مارقا
قال أبوعبدالرحمن: كلا!.. إنَّ جار الله أجَلُّ من أن يكون سارقاً، وليس بعد القرون الأولى من أوتي مثله سليقة اللغة لتحصل له سليقة البلاغة، وإلى لقاء قريب عاجل إن شاء الله، والله المستعان.