قال أبو عبدالرحمن: ههنا يبدأ عملي الاستقلالي عن رُباعيتين للخيام خلطتُ بينهما في المقارنة أنا وأخي عبدالله الماجد؛ إذْ أدركتنا غَفْلَةُ الصالحين؛ فَحَمَّلْنا الشاعرَ الوديع أحمد رامي ما هو بريئ منه من الاقتضاب والترجمة باستلهام المَعْنَى.. وقبل هذا أُذَكِّر أن رباعيات الخيام تراثية من عُمْق تراثنا العربي وإن كان الشاعر فارسياً، وأُبْدي أنها لا تحتاج إلى ما أسلفته عن (المترجِم بالمنهج التفسيري على طريقة مُحَقِّق المخطوطات) بخلاف مقطوعة أوردتها في الحلقة الأولى للشاعرة (شهرزاد شكريلي)؛ إذ لم يأتنا المترجم عبداللطيف الأرناؤوط بأدنى فائدة لا بالمنهج التفسيري، ولا من واقع الإحساس الجمالي.. ولو أردت ترجمتها تفسيرياً وجمالياً -وإن لم أُجِد لُغَتَها؛ لأنني عارف مدلولَها من سياق التجربة الحداثية في ذهني وذائِقَتِها- لَأَخْرجتها من ذلك السوء الذي حَلَّلْتُ به مفرداتِها المتنافرةَ، ولبيَّنتُ دلالة (الحب أجمل ما في الحياة)، وههنا أُعِيد الكرة عن جلال هذه المقطوعة لَوْ لامَسَتْها ريشة فنان؛ فقولها:
[خذ الأيام معك.
خذ الحياة أيضاً.
خذ هاتين العينين.
واليدين.
خذها جميعاً معك].
فهذه صورة لا تعني أن سعيد الحظ يأتي ليأخذها شبحاً؛ وإنما يأتي إلى حبيبة سَوِيَّة بجاذبية الحب اللذيذ العنيف معاً؛ فهذا الحبُّ سيهبه التجرِبة العريضة (خذ الأيام معك)، وسيهبه مُتْعَةَ الحياة بأسلوب شفَّاف (خذ الحياة أيضاً) وسيهبه إلهام عينين ثاقبتين، وبراعة يدين ماهرتين.. وهذا هو معنى [خذ هاتين العينين واليدين] استلهاماً من العينين وهما في عافية، وهكذا اليدان، وهذا هو المعنى الجميلُ المتبادَلُ بين الطرفين في شَدْوِ السِّت من القصيدة الزجلية ذات العنوان الإيحائي (أنتَ عمري)، ورامي أيضاً يقول (أنتِ - بكسر التاء - عمري)، وذلك قوله:
[هاتْ عينيك تِسْرَح في دُنْيَتْهُمْ عِنَيّْا
هاتْ اِيديكْ ترتاح لِلَمْسِتْهُمْ يْدَيّْا].
فاتضح بهذا معنى قول الألبانية [وأنا أمنحك سواها] يعني ما مضى من تجارِب الحياة المؤلمة، وما فقدته العينان من نظرة ثاقبة في الأعماق، وما فقدته اليدان من مهارة؛ فكل ما مضى قبل جاذبية الحب تجارِب عادية لا طعم لها، وليس فيها تفوَّق معرفي، وإحساس مُجَنَّح؛ وإنما جاذبية الحبِّ تصقل الموهبةَ، وتُرْهِف الإحساس.. هذا هو معنى قول الألبانية [أمنحك أجمل ما في الحياة - أمنحك الحب].. وكل العُشَّاق يعيشون هذا الحلم اللذيذ، والتجنيح مع الخيال تجنيحاً يفترض أن الحب هو كل (القِيمِ المعيارية)، وربما كنتُ واحداً منهم في ظرف مضى وانقضى بسلام، والله المستعان، (وأَحْلَى العِمِرْ عَدَّيْتهِ).. وليس بعزيز بعد ذلك فَهْمُ هذا الإيحاء الألباني: [فأنا حيث أنت هناك].. أجل إنهما إن لم يكونا بلذة الوِصال (هنا)؛ فَهُما دائماً معاً هناك مهما بَعُدَتْ المسافات بمظاهر كثيرة لست متفرغاً لها الآن مِمَّا يُسَّمِيه مؤصِّلو فلسفة الحب (باب القنوع) كالشمس تشرق عليه بعد إشراقها عليها، فتتجدَّد مُتْعَةُ الوصال، وليس في دنيا العُشَّاق شيئ اسمه (مَنْسِيُّ الهوى).. وهكذا هما هناك معاً وَفْق مشاعر الرومانسيين الذين يرون في انعطاف غصن على غصن تجدُّدَ مُتْعَةِ الوصال أيضاً.. اللهم عَفْواً قد طغت أقلامنا.. وأما رباعيَّتا الخيام التراثيتان فالأولى منهما ترجمة أحمد الصافي النجفي، وهي أَدَقُّ ترجمة ونصُّها:
كل ذرَّاتِ هذه الأرضِ كانتْ
أَوْجهاً كالشموس ذاتَ بهاءِ
أُجْلُ عن وجهكَ الغُبار برفقٍ
فَهْوَ خَدٌّ لكاعبٍ حسناءِ
وأما ترجمة الدكتور جميل الملائكة ففيها إضافة واقتباس وقصورٌ موضوعي وفني؛ فالاستفتاح عنده: [صاحِ رفقاً إذْ تنفض الأردانا]..والاستفتاح الحقيقي عن حال الأرض المنحلَّةِ ذَرَّاتُها عن أوجهٍ كالشموس في بهائها؛ فجعل جميل هذه المُقَدِّمةَ مُؤخَّرة هكذا:
إن هذا الغبار بالأمس كانا
وَجْهَ حسناء في مَراحِ الشبابِ
فذرَّات الأرض عند النجفي أعم من الغبار الطيَّار، وأهمل (جميل) المعنى الأعمَّ المُطابِقَ وصفَ ذراتِ الأرض كلِّها، وهو قوله في ترجمة الصافي: [أوجهاً كالشموس ذات بهاء]، وَعَوَّض جميل عن هذا بقوله: [وَجْهَ حسناء في مراح الشباب]؛ فهذا قصور؛ لأنه عن حصول غبار جُزئي من الأرض، وهو عوضٌ عن هذه الترجمة للصافي عن الغُبار المُعَيَّن: [فهو خَدٌّ لكاعب حسناء]؛ فالخدُّ أخصُّ من الوجه، والخيام لم يذكر شباب الحسناء، وإنما وصف مُجَسَّداً ومرئياً، وهما الكاعبُ والحُسْنُ.. والخيام لم يذكر الأردان وغبارَها، ولم يُوص بنفضها، ولم يخاطب غافلاً بكلمة (صاح) كما قال جميل: [صاح رفقاً إذْ تنفض الأردانا]؛ وإنما هو جلاء ووجه؛ فَكُلَّيَّة المعنى في ترجمة الصافي [أُجْلُ عن وجهك الغبار برفق]، وأما الأداء الفني فلا وجه للمقارنة بين جميل الملائكة وبين الفنان في اللغتين الشاعرِ أحمد الصافي النجفي، وإنني لمن عُشَّاق الجمال الفني وإن كان بريشة باطنيٍّ، والشكوى إلى الله!!.
قال أبو عبدالرحمن: وهذه ترجمة ثالثة تُثير العجب لإبراهيم العُريِّض قال فيها:
صدقتك ما كل ذراتها
سوى حيرة الشمس في ذاتها
فلا تجُل عن خد حسناء ذَرّاً
أما هو خد نظيراتها؟
ولن أحفل بتحليلها كثيراً؛ فلا لقاء بينها وبين الأصل؛ فليس في النص نسبة (صدقتك) إلى الأرض التي لم يذكرها، ولم يذكر سوى (حيرة الشمس)؛ وإنما الذرات من أوجهٍ مشبَّهة بالشموس ذات بهاء، وليس النص عن شمس حائرة!!.. وعدَّد الشمس بتعدُّد الحسناوات، وليس في النص نسبة الحيرة إلى الشمس، و(ذاتها) بمعنى النفس تأكيداً ليست من لغة العرب، ولا أزال أُعاني من حذف الذات بمعنى النفس في أعمالي السابقة، ولكنَّ الإلف الخاطئ يغلبني أحياناً.. وهكذا كنت أعاني تطهير أعمالي السابقة من (شيخ الإسلام)، ولكنَّ الألفَ الخاطئَ نفسَه يغلبني أحياناً.. والمأمور به - لا المَنْهِيُّ عنه - جلاء الوجه من الغبار برفق، وأما (الذرُّ من خدِّ حسناء) فمن كيس العريض، والغبار خد حسناء كاعب، وليس هو خد نظيراتها.. ولقد لقيت العريض رحمه الله في البحرين قُبَيْلَ وفاته، وكان حِديثاً ممتعاً منصتاً، ومع إنصاته فليس صبوراً على النقاش، ولاسيما إن كان النقاش من (كُهَيلٍ) ليست له سُمْعة أدبية.. وأما علي محمود طه المهندس فإنه خارجُ العُهْدة؛ لأنه لم يدَّع أنه ترجم الرباعيات؛ وإنما كان مُحَاكِياً ومُسْتَلْهماً بالاقتباس من كُلِّياتها.. وأما ترجمه أحمد رامي الذي ظلمناه، وهي:
فامش الهوينا إن هذا الثرى
من أعين ساحرة الاحورار
وادَّعينا أنه جاء بتعبيرٍ جميل بتصرُّفٍ؛ فأضاف وحذف: فلا علاقة لترجمته ألبتة برباعية الذرات، وإنما هي ترجمة أمينة للنص الفارسي بعد أن تعلم اللغة الفارسية منذ إشرافه على ترجمة فتزجرالد بالإنجليزية عن الفارسية، وهذا نصُّها:
وكم توالَى الليلُ بعد النهارْ
وطال بالأنجم هذا المدارْ
فامشِ الُهوينَى إن هذا الثرى
من أعينٍ ساحرةِ الاحورار
وكل ترجمة مردودة إلى ترجمة رامي، فهو فنان عربي تمّكَّن من إتقان الفارسية بتصميم وعزم بعد عون الله، وكان مُلِمّْاً بفلسفتها من عُمْق ثقافته، وهو بمراجِعهِ الثرية محيط بالنصوص الفارسية المتعدِّدة؛ فالخيام يستفتح الرباعية بالاعتبار من توالي الزمن وطوله على الأحياء البشرية؛ لِيُمَهِّدَ للبيت الثاني، ويزيل الدهشة عن استغراب ثرى تكوَّن من أعينٍ ساحرة الاحورار؛ فلا عجب (بعد طول مدار الأفلاك واستمرارِها مع العلم بتحلُّل الأحياء بعد التَّلَف إلى أجزاء عناصرها) إذا غَمر الرفاتُ ذرات الأرض.. ولست أذكر هذا إيماناً بالنظرية التَّخييليَّة؛ فلذلك بيان يأتي إن شاء الله،وهو يوصي بالهوينا في المشي احتراماً لفرات الحسناوات، وما أراد المعنى من دالية أبي العلاء؛ لأن الخيام استعاره ووظفه لمعنى آخر.. وأما دعوى الدكتور عبدالحفيظ بأن الخيام أورامي - وترجمة رامي مطابقة - مُسْتَلْهمِ النص القرآني الكريم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (63) سورة الفرقان): فلا صحة له في هذا السياق إلا أن رامي اختار (الهوينا) لا غير، وليس في الشرع التوصيةُ بمشي الهوينا احتراماً لثرى الحسناوات!!.. ونص ترجمة الصافي هكذا:
كَانَ يَبْدُو قَبْلِي وَقَبْلَكَ صُبْحٌ
وَدُجىً وَالسَّمَا تَدُورُ لأَمْرِ
طَأْ بِرِفْقٍ هَذَا التُّرَابَ فَقِدْمَا
كَانَ إِنْسَانَ عَيْنِ ظَبْيٍ أَغَرِّ
ونصها الفارسي:
[پيش از من وتو ليل ونهاري بوده است.
گردنده فلك زبهر کاري بوده است.
زنهار قدم بخاك اهسته نهى.
كه اين مردمك چشم نگارى بوده است].
وأما رباعية الزهاوي الأولى السابقة فنصها الفارسي:
[هر سبزه که بر کنار جوئي رسته است.
گوئي ز لب فرشته خوئي رسته است.
پا بر سر هر سبزه بخاري ننهى.
کين سبزه زخاک لاله روئى رسته است].
وسأجهد نفسي في الترجيح بين ترجمة رامي والنجفي، ويظهر لي أن ترجمة أحمد الصافي النجفي قريبة من النص؛ لأنه كما في مقدمته اعتمد على أصل فارسي جمعه رشيد الياسمي وَطُبِع في طهران، وتابع مقارناتٍ بين نسخ أخرى جمعها المستشرق الألماني الدكتور (فريد ريخ روزن)، ولم يكتف بهذا، بل عرض عمله على شعراء وأدباء الفرس أمثال الشاعر محمد حسين بهار، وأديب الفرس صدر الأفاضل؛ فقابلوا عمله بالتزكية.. ومع هذا حرص على القُرب من الذوق العربي؛ وهذا يحتاج أحياناً إلى ترجمة معنوية، ويا ليت ترجمته كانت على وزن (الدوبيت) الذي نظم عليه الخيام؛ لأن الوزن واللحن وضبط الأنغام مَطْلَبٌ عربي.. وفي ترجمة النجفي قفلات لازمة زائدة على معنى الشطر، وهي (بوده است).. ولكنَّ أحمد رامي كان أكثر استيعاباً للأصول الفارسية كما في مُقَدِّمة ترجمته؛ فاختار ما اتَّفقت الأصول على معناه، ولكنه لم يَضَع بجوار الترجمة العربية النصَّ الفارسي الذي ارتضاه.. إلا أن الدكتور عبدالحفيظ أثبت النص الفارسي الذي ترجمه رامي افتراضاً لا يقيناً، وهو:
پيش از من وتو ليل ونهاري بوده است
گردنده فلك نيز بكارى بوده است
برجاكه قدم نهى تو بر روي زمين
آن مردمك چشم نگارى بوده است
فجعل قول رامي (وطال بالأنجم هذا المدار) بمقابل النص الفارسي (گردنده فلك نيز بكارى)، وهو بخلاف ترجمة الصافي (ودُجىً والسما تدور لأمر)، وبخلاف نصه الفارسي.. والشطر الأول من النص الفارسي مطابق في ترجمة رامي والنجفي.. إلا أن النص العربي مُخْتلِف؛ فعند رامي (وكم توالى الليل بعد النهار)، وعند الصافي (كان يبدو قبلي وقبلك صبح)..ومن المُحال أن يَتَّحِدَ النص الفارسي وتختلف الترجمة العربية اختلاف تباين كهذا، فالنص الفارسي الذي ادَّعى عبدالحفيظ أن رامي ترجم عنه، وجعل مُخالفةَ رامي له تصرُّفاً من رامي نفسه: تخمين لا غير، وهو عن ترجمة فروغي وزميله قاسم غني.. بينما ترجمة رامي عن كل النصوص، وبانتقاء من جميعها تواطأتْ على معنى واحد؛ ولهذا فترجمة رامي هي المطابقة نصَّ الخيام الفارسي، وهي المُجَنِّحة فنياً؛ فترجمة فروغي: (قبلي وقبلك ليل ونهار) دلالة ساذَجة ناقصة لا تدلُّ على البعد الزمني المتوالي المُرَشِّحِ استقرارَ ذرات الأرض على الرفات البشري؛ وإنما نجد هذا الترشيح في أَلَق رامي (وكم توالى الليل والنهار)؛ فهذا عن وعيٍ بموهبة الخيام بمجموعة نصوص فارسية متواطئة على هذا المعنى.. ولا يبعد عن هذا العُقْم ترجمة النجفي (كان يبدو قبلي وقبلك صُبْح)، وقل مثل ذلك عن هذا الألق الثاني لرامي (وطال بالأنجم هذا المدار)؛ فهل يُقارَن هذا التناسب المعنوي من غير فضول بترجمة فروغي (والفلك الدوار أيضاً كان في دوار)؟!.. إن توالي الليل والنهار هو نفسه إرهاق الأنجم بطول المدار؛ فالفلك الدوَّار، وكلمة (أيضاً)، و(كان في دوار): كلُّ ذلك مُغايرة في المعنى وحشو.. وعند النجفي: (وَدُجَى والسما تدور لأمر)، فالخيام لم يُرِدْ الاستشراف للحكمة من دورات الزمان المبهمة في قوله: (تدور لأمر)؛ وإنما أراد دلالة طول المدار على بُعْدِ الدهشة من كون ذرات الأرض متحلِّلة من رُفات بشري.. وعند فروغي:
فحيثما تضع القدم على سطح الأرض
هناك إنسان عين لمعشوقة نوار
فليس في هذه السطحية إلا الخبرُ النثري عن تحلُّل الثَّرَى عن تحلُّل الرُّفات، وأنه من إنسان عينِ معشوقة، وما أسمج قلق القافية في قوله: (نوار !!).. وعند النجفي - وفروغي أصل أصيل في مصادره -:
طَأْ بِرِفْقٍ هَذَا التُّرَابَ فَقِدْمَاً
كَانَ إِنْسَانَ عَيْنِ ظَبْيٍ أَغَرِّ
فصار إنسان عين ظبي لا إنسان عين معشوقة، ثم اقرأ هذا الألق لرامي (أسأل الله من فضله):
فامش الهوينى إن هذا الثرى
من أعين ساحرة الاحورار
فهذا هو المعنى الخيامي الذي استعاره من أبي العلاء، ووظفه لإجلال مفاتن الجمال المتحلِّلة في الثرى، ثم انظر هذا التناسب بين الشطرين، مع دلالة التعليل في (إن هذا الثرى)، وهكذا شمولُ سحر الجمال في (أعين) بالجمع، وليس في عين معشوقة أو ظبي.. ولقد حرَمَنا رامي من وزن (الدوبيت) الذي جاء عليه وزن رباعيات الخيام، واختار تفعيلات [/5/5//5 - /5/5//5 - /5//5] مع زحافات مُنَغِّصة إلا أن (السِّت) و(السنباطي) معاً ذلَّلاه بما يُمليه (مقام راست) من لحن يُصَفِّق بالقلوب.
قال أبو عبدالرحمن: وهكذا ترجمة مصطفى التل نجدها متطابقة في النص الفارسي مع اختلاف يسير، وهو النص الذي اعتمده أحمد الصافي النجفي، وقد أسلفت أن عمدته ترجمة (فروغي) وزميله؛ وإنما يرِد اختلاف يسير؛ فعند التل في الشطر الثاني من البيت الأول (فلك براي) بدل (فلك زبهر)، وفي الشطر الثاني من البيت الثاني (كآن مردمك) بدل (كه اين مردمك)، ولا ريب أن هذا اختلاف ترادف؛ فجاء النص العربي عند التل: (وإن لدوران هذه العوالم غاية) بدل (ودُجىً والسما تدور لأمر)، و(وإنَّ لدوران هذه العوالم غاية.. خفِّف الوطء فما يدرينا أن هذا التراب الذي ندوسه الآن) بدل:
طَأْ بِرِفْقٍ هَذَا التُّرَابَ فقَبْلَنَا
كَانَ إِنْسَانَ عَيْنِ ظَبْيٍ أَغَرِّ
وهكذا ترجمة الزهاوي وأبو شادي والصراف والحيدري وعبدالحق فاضل والطرازي، مع اختلاف شنيع في النصوص العربية زيادة ونقصاً وتبديلاً، وهكذا نقص الأداء في الترابط بين الشطرين في البيت الأول، وانعدام الترابط بين البيت الأول والبيت الثاني؛ لأن المشي على الأرض برفقٍ لا يناسب الحكمة من توالي الليل والنهار واستمرار الفلك الدوار، ولم يقصد الخيام هذا المعنى، ولم يذكر رفات العظماء والمصلحين في هذه الرباعية؛ ليكون الرفق في المشي إكباراً لرفاتهم، وإنما ذكر مفاتن الجمال البشري الأنثوي؛ فكان الإيصاء بتخفيف المشي احتراماً لمفاتن الجمال.. والخلل من ترجمة (فروغي)، وهو آتٍ مما يعتري التراثَ الفارسي كما يعتري تراثنا العربي، ولا سيما إن كان البحر واحداً؛ وذلك الخلل: إما اجتهادٌ من الجامع الفارسي في ربطه بين البيتين، وإما خَلْطٌ بين رباعيتين، وقد أسلفتُ أن الرباعيات كثيرة جداً لا تصمد كلها للرواية المُوَثَّقة، وأن مسألة تحلُّلِ الرفات طاغيةٌ على المعاني الأخرى في الرباعيات؛ لهذا تكون ترجمة أحمد رامي التوثيقية الانتقائية هي الأصل في صحة المقارنات.
قال أبو عبد الرحمن: وإنما عُنيت مع أخي الماجد بمسألة الكوز في رباعيات الخيام التي رمزنا لها بالفناء الباقي لكثرة ما ردَّدها بصورٍ مختلفة، وقد زعم (أديب التقي) في مقدمته لترجمة أحمد الصافي: أن فلسفة الكوز تمثل 75 من الرباعيات!!، ولا يحق لنا أن ننكر صحة هذا الزعم؛ لأن (أديب التقي)اطلع على ما لم نطلع عليه بالعربية وغيرها.. إلا أن ما اطلعنا عليه بالعربية وهو غير قليل لا يزيد على خمس وعشرين رباعية في هذا الغرض، وعدد الرباعيات التي اطلعنا عليها بالعربية أربعمئة رباعية.. وموجزُ فلسفة الكوز أنها بقاءٌ من الفناء البشري!.. تنحل عناصر الميت، وتتبعثر، ولكن ربما دخلت هذه العناصر المتبعثرة: في عفصة سروة (وهي شجرة سروٍ مُلْتفَّة)، أو زهرة خبيزة.. يعني في مكان مُنخفض، أو عروة إبريق من خزف، أو أُذن جرة!.. وربما كان في أكواب الشراب ذرات من جمجمة كيخسرو، أو قحف جمشيد.. وربما كانت الزنابق شفة حسناء، أو قلب معمود هكذا قال أديب التقي.. وهكذا زعم الخيام؛ فهل في هذا الزعم حرج من جهة الإسلام؟.. بيان ذلك أن المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يرون أن فناءَ البشر عائد إلى بقاءٍ؛ لأن بعد فناء الدنيا رجعةً إلى الآخرة: إما إلى جنة، وإما إلى نار.. يخلدون، ولا يموتون، وقال آخرون ما هم بمؤمنين: (البقاء في تناسخ الأرواح)، وهذا تكهنٌ كافرٌ بالبعث؛ إذْ كيف يُبعث ألوف الناس في جسم واحد؟!.. وهو افتراءٌ على الله، وتكذيب لخبره.. وقد رُوي للخيام شيئ من ذلك في رباعياته، وفي ظني أن الخيام يؤمن بأن البعث للأرواح فقط.. قال بترجمة أحمد الصافي:
إنَّ بدري يلوح في كلَّ شكلِ
حيواناً طوراً وطوراً نباتاً
لا تَخَلْه يزول هيهات فالموصوف
(م) إن يفْنَ وصفه يبق ذاتا
وقالت فئة ثالثة ما هي بمؤمنة أيضاً: (البقاء في الاتحاد).. ولعروج الروح بعد الموت عند هؤلاء بقاءٌ خالد.. قال ابن الفارض:
فالموت في حياتي
وفي حياتيَ قتلي
وقال علي محمود طه مقلداً:
فَنِيَتْ في هواه قلوبٌ
وأصابت خلودَها الأرواحُ
فهؤلاء ألحدوا في أسماء الله وصفاته، وتنقُّصِهم كماله، وتنقَّصوا كلامه، وقالوا بغير علم، وغيَّبوا ما هو معلوم.. وقالت فئة رابعة: البقاء في الاتحاد، ولكنه اتحاد المخلوق بالمخلوق، ولم يكونوا جادين في فلسفتهم المُتَكَهِّنة، بل كانوا مازحين، متجوزين بالمبالغات والمغالطات البلاغية.. يرون أن العاشق يتَّحد بمحبوته في بقاء الفناء؛ لأن تجانس الأرواح علة الحب، والرمز السائد عند هؤلاء احتراق الفراشة.. وقد تعمقتْ هذه النظرية عند عدد من الأُدباء كحافظ وسعدي الشيرازيين، وإقبال، وروسو، ولامرتين، وجيته.. وأكثرهم لا يؤمن بالاتحاد فلسفة وعقيدة، ولا يقولون بالاتحاد مع الخالق جل جلاله وتقدست أسماؤه.. واتحاد المخلوق بالمخلوق عندهم ضرب من المزاح الفكري.. وقالت فئة خامسة: تنحل عناصر الميت إلى ذرات تبقى في الغبار أو الكوز وهذه هي (فلسفة الكوز)، وهذه الفلسفة على أربع رُتَب:
رتبة التحلل، فالجسم يتحلل إلى تراب؛ فربما كان صعيداً طيباً نتيمم به، وربما كان شعثاً في الرأس.. ولا خطورة في هذه الفكرة، وهي وحي النصوص الشرعية؛ ففي الأحاديث الصحيحة المتواترة: أن التراب يأكل كل شيئ من الإنسان إلا عجب ذنبه [راجع لباب البحث للمراغي شرح كتاب البعث لأبي بكر بن داود ص 70-72]، والناس خُلقوا من التراب، وإليه يعودون.. وسواء أكان بلى الأجسام يعني تفرق أجزائها أم كان يعني انعدامها فالله قادر على البعث في كلتا الحالتين، ولكن الكهانة في احتمال أنها من تراب ميت، وتعميمها بأنها رفات حسناء أو مَلِكٍ أو غيره؛ لأن الجثث المقبورة، أو في البحر، أو في بطون الحوت والسباع والطيور يبعثها الله كما هي لا يخفى عليه منها ذرة، ولأن القبور المنبوشة فيها الجميل والقبيح والدوني والعادي والذكر والأنثى.. إلخ، ولو فُرِض أن الله لم يحجبها فتكون جزءاً من الثرى فإن الذي يُعيدها من بطن الدود والطير.. إلخ أقدر على إعادتها من المصنوعات الجامدة.. والشمس والهواء والمطر طهارة لرفات الأرض، والله مع حفظه للرفات يبعث الأجساد ويبدِّلها كما يشاء كمالاً أو تعذيباً كما يبدِّل جلود الكفار كلما نضجت، والنعيم والعذاب للأرواح والأجساد التي سَيَبْعَثُ الله فيها الأرواح.. وهذه فكرة ساذَجة لم يُطَوِّرها الخيالُ قبل الخيامِ، والدكتور عبدالحفيظ ص 306 يذكر جذروها بأبيات من دالية أبي العلاء المعري مع أن جذروها قبل أبي العلاء بقرنين؛ فقد ذكر الأخباريون أن ديك الجن أحرق جثة مَعْشوقَيْه (الجارية والغلام)، وصنع من كل جُثَّة كوزاً!!.. فإن لم يصحَّ الخبر فهو تصوُّر قديم مُفْترى، ولعمر أبو ريشة شعر جيد في كوزي ديك الجن، وأكتفي بما سلف من المُقارنة بين رُباعِيَّتين من رباعيات الخيام، وهي بداية لعمل شامل جاد مع الرباعيات كلِّها إن جَعَل الله فسحةً في العمر، واستعدتُ ما فرَّطْتُ فيه من مصادر، وتيسَّر لي ضمُّ وترتيب فِيَشِـي وكُنَّاشتي، وشاء لي سبحانه وتعالى إنجاز هذا العمل؛ فإن لم يكن ذلك فطريق المنهج مفتوحٌ بابُه لمن أراد أن يُكَمِّل مسيرتي، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتِّكال.