قال أبو عبدالرحمن: أَشَرْتُ كثيراً إلى أضرار الصناعة النحوِيَّة في تفسير نصوص الشرع المُطهَّر، ونصوص كلام العرب.. ومعنى الصناعة النحوية أن يكون في ذهن النحويِّ من خبرته بقواعد النحو: أن ما كان هو الأرجحَ والأظهرَ والأغلبَ في كلام العرب من احتمالاتِ أوجُهِ
النحوِ الكثيرة فهو الأولى والأحق بحمل أي نصٍّ شرعي أو كلام عربيٍّ فصيح عليه ولو بتعَسُّفٍ.. وهذا هو الخطأُ الفاحش، وهو الصناعة النحوية المذمومة، بل يُحْمَلُ النص الشرعي على مدلول سياقه، ومعهودِ مُنَزِّلِه سبحانه بما يناسبه من وجهٍ نحوي صحيح وإن لم يكن هو الأظهرَ والأغلبَ في كلام الناس، وأضرب المثال بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) سورة السجدة، فالخبر ههنا عن إيتاء الله موسى عليه السلام الكتاب، وأنه هدى لبني إسرائيل.. والخطاب لعبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ ، فلا يحتمل العقل من ضرورة اللغة والشرع إلا عودَ الضمير إلى الكتاب الذي آتاه الله موسى، ولا يحتمل العقلُ إلا أن يكون اللقاء بين الكتاب الذي أَنزله الله على محمد والكتاب الذي أَنزله على موسى عليهما صلوات الله وسلامه وبركاته؛ لأن السورة مُفْتتحة بالكتاب الذي لا ريب فيه من رب العالمين لينذر به محمدٌ صلى الله عليه وسلم قوماً ما أتاهم من نذير من قبله، ومضى السياق في الموعظة والبرهنة والإنذار لمن ذُكِّر بآيات ربه ثم أعرض عنها، وضرب لهم المثلَ بالخِيار من قوم موسى عليه السلام الذين تلَقَّوا الكتاب الذي جاء به رسول الله موسى إليهم؛ فجعل الله منهم أئمة يهدون بأمره الشرعي لمَّا صبروا وكانوا بآيات ربهم يوقنون.. وهذا اللقاء بين كتاب الله المُنزَّلِ على موسى والمنزَّل على محمد عليهما الصلاة والسلام معهودٌ شرعي بنصوص كثيرة جداً، فالقرآن مُصَدِّق لما بين يديه من الكتب النازلة قبله؛ وذلك بتصديق ما لم يُجحد، أو يُبَدَّل، أو يُصرف نَصُّه عن معناه؛ وهو هو تحريف الكلم عن مواضعه، وهو رذيلةُ التأويل بمصطلح علم الكلام لا بالمصطلح العلمي الصحيح الذي هو (خصوص تفسير) يَرُدُّ دلالات النصوص إلى مَآلها باستنباط لا افتراء فيه ولا ادِّعاء من غير براهين تصحيح وترجيح.. والقرآن يسكت عن أخبار، أو يقص خبراً ويترك بعضه حكمةً منه جل جلاله؛ فما ضَمِن لعباده أن يُخْبرهم بكل غيب.. ومن أمثلة ما غَيَّبه أهل الكتاب (آيةُ الرجم) التي جحدها أهل الضلال؛ من بني إسرائيل فأظهرها عبد الله بن سلام رضي الله عنه.. وفي عهد التنزيل كانت توجد نسخ يعرف الأحبارُ ما شابها من تدليس؛ ولهذا قال ربنا سبحانهتعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (سورة المائدة 42-43).. وبكتابه المُنَزَّل إليهم (إن لم يفتروا عليه) يلزمهم به نفسِه اتباعُ محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن شرعه ناسخ مهيمن بشهادةٍ وبشارةٍ مما في كتابهم؛ ولهذا قال تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (سورة المائدة 47-49)، وأوضح دلالة على هذا اللقاء قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (سورة الأنعام 114)، وجاء النص بكلمة {يَعْلَمُونَ}؛ لأن المؤمنين منهم قلة؛ ولهذا جحدوا وهم يعلمون حسداً وبغياً؛ فعِلْمُهم شاهدٌ عليهم باللقاء بين الكتابين الكريمين؛ فبحمد الله جاء تفسير النص بما هو أظهر وأرجح في اللغة والنحو والبلاغة، وبما لا يحتمل سياقُ النصِّ غيرَه.. ومع ههالضرورة الشرعية التي لا يحتمل غيرَها بيانُ اللغة ولا معهودُ الشرع نجد الصناعةَ النحوية تُغَيِّب هذه الضرورةَ، وتدَّعي ما لا وجودَ له في النص، ثم إن ذلك المُدَّعَى ليس فيه عبرة شرعية من جهة البلاغة؛ فقد احتمل الزجاج أن ضمير لقائه عائد إلى تَلَقِّي موسى الكتاب، وهذا باطل في اللغة؛ لأن اللقاء غير التَّلَقِّي، ولا ارتباط لهذه الدعوى بسياق سورة السجدة، ولا خصوصية للكتاب الذي أُنزل على موسى عليه السلام بأن يكون مَحَلَّ شَكٍّ في إنزال الله إياه، بل جاء النص عاماً عن الكتب في قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (سورة البقرة 285)، واحتمل الزجاج أن المراد لقاءُ محمد صلى الله عليه وسلم موسى نفسَه مستدلاً بقوله تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (سورة الزخرف 45).
قال أبو عبدالرحمن: واضيعتاه إذْ يكون تفسير كلام الله بالاحتمالات الادَّعَائية!!.. فالآية من سورة الزخرف إحالة إلى القرآن الكريم نفسِه الذي فيه أجوبة الرسل عليهم الصلاة والسلام (بما فيهم موسى نفسُه عليه السلام) لقومهم بأن الله إله واحد لا معبود بحق غيره، وسياق سورة الزخرف نفسِها من أجوبة الرسل.. ثم كيف ينهى الله عبدَه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يمتري في لقائه موسى ما دام ذلك مُيَسَّراً في سورة الزخرف وسورة السجدة.. وهما سورتان مَكِّيتان؛ وليس إيمانُ أعبدِ العابدين محمد صلى الله عليه وسلم موقوفاً على لقاء موسى بشخصه؛ بل إيمانه بموسى نفسِه آتٍ من اصطفاء الله إياه، وإظهاره له براهين إرساله من ربه، ثم إن الخبر في سورة السجدة عن الكتابَين المُنَزَّلَين على موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وليس الخبر عن موسى نفسه.. ومن الظنون قولهم: ((فلا تكن في مرية من لقائك يا محمد موسى ليلة الإسراء))؛ فأي خبر عن الإسراء في سورة السجدة، وأي موعظة بذكرِ الإسراء في سياق السورة، ولماذا معاندةُ الضرورةِ اللغوية الشرعية في الخبر عن كتابين من عند الله التقيا على الحق ؟!.. وإذا كان المعنى بزعمهم: (فلا تكن في مِرْية من لقاء موسى ليلة الإسراء)، فالضمير إلى موسى بعد ذلك هكذا: (وجعلنا موسى هدى لبني إسرائيل ليلة الإسراء !!).. ولا ريب أن موسى هدى لبني إسرائيل في حياته بإبلاغه وحيَ ربه؛ فهو نفسه هدى مجازاً ببلاغه وامتثاله، والهدى حقيقةً في بيان الكتاب الذي جاء به من عند ربه، والخبرُ عن إيتاء الكتاب لا عن موسى نفسه.. وعند القاسمي رحمه الله تعالى أن المراد فلا تكن في مرية من إيتائك كتاباً مُنَزَّلاً من عند الله مثل إيتائنا موسى كتاباً.. وهذا حق في نفسه، ولكنَّ دلالةَ الآية لا تقبله، لأن خبر الآية ونهْيَها ليس عن الامتراء في نزول القرآن على محمد مثل إنزال كتابٍ على موسى عليهما الصلاة والسلام، بل الخبر والنهي عن اللقاء بين كتابين مُنزَّلين من عند الله، وليس إيمانُ محمد صلى الله عليه وسلم بما أنزله الله عليه متوقِّفاً على إيمانه بكتابٍ أنزله الله على موسى، بل إيمانه بموسى، وبما أنزله الله على موسى، وبما أنزله عليه هو، وبالرسل جميعهم عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته، وبالكتب جميعها: قائمٌ على بَيِّنات ربه الذي اصطفاه؛ والغرضُ دَفْعُ المِريةِ عن لقاء القرآنِ كتابَ موسى، والردُّ على شنشنة المُفْترين أنه تَقَّى علومَ أهل الكتاب، والله سبحانه مُجَرِّدٌ عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم من المِرْية بما يعلمه رسولُ الله هو نفسه عن حاله أنه أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يتلقَّ شيئاً عن أهل الكتاب، ومُجَرِّدهُ عن المِرْية بما أظهرته كتبُ أهل الكتاب من تصديقه؛ فهذا هو اللقاءُ الأول.. وبما أظهره القرآن الكريم من كذبهم وتبديلهم وتحريفهم؛ فذلك هو اللقاء الآخر مع كتب الله التي غيَّبها الظالمون كما قال تعالى: وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ، وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (سورة الأنعام 91-92)؛ فإذا أخبر عبدالله ورسوله محمدٌ صلى الله عليه وسلم بما ليس في كتابهم فذلك لقاء بين الكتابين لا مرية فيه، لأنه لقاءٌ قبل تبديلِ أهل الكتاب كما في سورة غافر عن علمهم بعاد وثمود وهلاكهما وعلمهم بهود وصالح عليهما الصلاة والسلام، وقد غيَّبوا هذا الخبر في كتابهم، وقد حصل تبديل من غيرهم عند هيمنة الوثنيين عليهم في حِقَبٍ من تاريخهم، وغَيَّبوا حقاً كثيراً.. وكلُّ نَهْيٍ وعتاب من الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فهو تجريدٌ له لعبوديَّتِة ربَّه وموعظةٌ وتوجيه لأمته.. وفي الدر المصون 9/89 للسمين رحمه الله تعالى العجبُ العُجاب من الاحتمالات، ولكنه تخلَّص بقوله: ((وهذه أقوال بعيدة ذكرتها للتنبيه على ضعفها))، ومع هذا فلم يُرَجِّح رحمه الله تعالى قولاً صحيحاً.. وهكذا كُحَيْلان جار الله الزمخشري، والشهاب الخفاجي، وابن عاشور رحمهم الله تعالى: لم يهتدوا إلى القول الصحيح المطابِق على الرغم من تمكُّنِهم في النحو والبلاغة، وإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله، والله المستعان.